إن الاتفاق الذي وقعته حركة طالبان مع أمريكا مؤخرا قد أصاب الحركة وثوابتها في مقتل، فقد تعهدت حركة طالبان بأن لا تنصر أياً كان على أمريكا وأن لا تكون أفغانستان منطلقاً لأي عملياتٍ ضد أمريكا، وبذلك تكون قد خالفت قوله تعالى: ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾، وقوله صلى الله عليه وسلم : «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ»، فلو أن أهل باكستان مثلاً تعرّضوا للقتل والذبح على يد أمريكا فإن طالبان وبموجب الاتفاق لن تستطيع نصرتهم بل ستتركهم للقتل والذبح، فبعد هذا الاتفاق فإنه ممنوع على طالبان أن تنصر مسلماً، بل مطلوب منها أن تقاتله إن هو أخل باتفاقها مع أمريكا..!! هذا أولاً.
أما ثانياً فإنه لا يجوز لمسلمٍ أن يُسالم كافراً ويكتب بينه وبينه العهود والمواثيق مُؤثراً سلامة الكافر على سلامة أخيه المسلم، فالمسلمون أمة واحدة من دون الناس؛ سِلمُهم واحدة وحربهم واحدة، فلا يجوز أن يَستأثر أحدٌ بسِلمهم أو حربهم دون باقي المسلمين، وهذا الأمر لم يكن متصوراً يوم أن كان المسلمون يحكمهم رجلٌ واحدٌ بيده إعلان الحرب وإعلان السِلم.
إن أمريكا دولةٌ استعماريةٌ رأسماليةٌ وهي تحتل أراضٍ للمسلمين، فحالة الحرب الفعلية هي التي يجب أن تُـتخذ معها، فهُم واليهود الذين يحتلون فلسطين سواء بسواء، وإن لم تستطع طالبان أو غيرها الآن مقاتلة أمريكا فليس أقل من أن تبقى حالة الحرب بيننا وبينها، وقد استطاعت طالبان طوال تسعة عشر عاماً أن تُذيق أمريكا وَبَال اعتدائها على المسلمين وتُمرِّغ أنفها بالتراب؛ فقد خاضت معها أطول حربٍ تخوضها أمريكا في تاريخها وقتلت وجرحت من جنودها الآلاف، فضلاً عن مئات المليارات التي خسرتها أمريكا في حربها في أفغانستان، ومنذ زمن أوباما وأمريكا تحلم بخروجٍ مشرِّفٍ يحفظ لها ماء وجهها ويبقي لها بعض هيبتها وما كان يمنعها إلا صلفها وكِبرها وكونها لا تريد الخروج بمظهر المهزوم.
إن ما وقَّعته طالبان من اتفاقٍ مُهينٍ كان لأمريكا طوقَ نجاةٍ أبقى لها شيئاً من ماء الوجه مع أنها أوشكت أن تفقد الوجه وماءه، وحركة طالبان إذا ما اشتغلت بالسياسة وإدارة شؤون الناس داخل أفغانستان فإنها ستزيد عدد الدول الوظيفية التي تخدم أمريكا ليس لأن الاشتغال بالسياسة خطأ ولكن لأن السياسة ليست عملها ولم تربِّ أعضاءها عليها، ولا عَجَب إذن من أن يخرج ترامب قبل أيامٍ قليلة ليقول: (إن أمريكا كانت على مدى عقدين من الزمان تعمل عمل الشرطي في أفغانستان)، وكأن لسان حاله يقول إننا لن نخرج من أفغانستان حتى يقوم غيرنا بدور الشرطي، فهل سيكون الشرطي هذا هو حركة طالبان؟!
إن سياسة الاستفراد التي تتبعها أمريكا في بلاد المسلمين ليست سياسةً جديدة ولكن الظن كان بأفراد أبناء هذه الحركات أن يدوروا مع القرآن وهم من ذاق حلاوة القتال والجهاد ضد الكافر المستعمر لأرضهم وبلدهم، أما أن نُضيف إلى دول الكرتون دولةً جديدةً وخُدَّاماً لأمريكا جدداً فهذا مما لا قِبل بقبوله عقلاً أو ديناً، فالأصل أن بلاد المسلمين واحدة وأن حرب المسلمين واحدة وسِلمهم واحد، وليس لمن خَبِر ساحات القتال وسنوات الجهاد أن يُنهي جهاده وقتاله باتفاقٍ يَحول بينه وبين نُصرة إخوانه، فالعالمُ كُـله بدأ يحسب للمسلمين ألف حساب وهم ليس لهم كيان أو دولة فكيف لو كان لنا دولة وكيان؟! فالعالم كله في تراجع وعلى رأسه أمريكا سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي، والدنيا أصبحت مرشحةً ليكون الإسلام ودولته هما الوريث الفعلي لهذه الأنظمة.
إن حركة طالبان هي الخاسر الأكبر من اتفاقها مع أمريكا، بالرغم من بعض المكاسب التي ربما ظنَّت طالبان أنها حققتها من مثل إخراج أسراها من السجون الأفغانية، وقد يُسمح لها بجعل بعض أحكام الشريعة التي لا تنكأ لأمريكا والغرب عيناً ولا تغير في طبيعة دولتها الوظيفية شيئاً وإنما ذرّاً للرماد في العيون، ولكن السياسي ينظر إلى الخسارة التي خسرتها طالبان باتفاقها مع أمريكا، فطالبان خسرت بالاتفاق مبدئيتها وتاريخها الجهادي ضد أعتى قوة على وجه الأرض، ومرَّغت أنف أمريكا بالتراب، وما كان بينها وبين النصر إلا صبر ساعة، والتاريخ كان سيسجل لها أنها أخرجت الكافر المستعمر من أرضها، أما أن ينتهي بها المطاف في أحسن الأحوال إلى مشاركة غاني في وضع دستور لأفغانستان يطبق فيه جزءٌ من الإسلام في السياسة الداخلية وتبقى العلاقات الخارجية ليست على أساس الإسلام، فأي نصرٍ هذا وأي إنجاز؟!
كان يجب على العقلاء والمخلصين من طالبان أن يأخذوا على يد قادتهم، وكان يجب على طالبان أن تدرس التاريخ والفقه جيداً حتى لا تكون طُعماً لأمريكا وتجعلها تزهو زهو المنتصر وهي تُحيِّد أكبر حركة مسلحة في بلاد المسلمين لتلحقها بأخواتها ممن كان يحمل السلاح يوماً ضدها، وسيكون هذا الاتفاق الذي تتخلى فيه طالبان عن إخوانها ونصرتهم في الداخل أو الخارج هو وصمة عار وشنار عليها إلى يوم الدين، ومن يدري لا قدر الله فلربما نشهد يوماً تحمل فيه طالبان السلاح ضد إخوانهم في حمل السلاح بحجة محاربة (الإرهاب)، وتصبح طالبان دولة تُـقاتل بالوكالة كما يفعل المسلحون في ليبيا واليمن وغيرها!!
إنه لمحزنٌ حقيقةً ما وصلت له طالبان فكانت كالتي نقضت غزلها بعد إحكام سنين وسنين، ولو أنها عقلت الموقف الدولي وتغير الأوزان فيه لعلمت أن أمريكا ونجم الغرب كله قد أزف على الرحيل، والعالم يتشوق لزمنٍ غير زمن أمريكا والغرب وعقيدته، بل لا أبالغ عندما أقول إننا نرى العقيدة الرأسمالية بأنظمتها وقوانينها تلفظ أنفاسها الأخيرة، وسيكون العالم بإذن الله مع مبدأ جديد وعقيدة تحكم العالم جديدة، ولا يكون ذلك إلا بالخلافة التي يرتعد الكفار من حروفها وينخلع قلبهم عند ذكرها، وكان يجب على طالبان أن تتوقف قليلا عند قوله تعالى: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً﴾، وعند قوله سبحانه: ﴿وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيماً﴾.
نسأل اللَّه أن يأخذ بأيدي المخلصين من طالبان وأن يُرشدهم إلى أحسن أمرهم.
بقلم: الأستاذ أبو المعتز بالله الأشقر