ارتفع معدل التضخم في السودان إلى نحو 99% في شهر نيسان/أبريل الماضي، مقابل 82% في الشهر الذي قبله، بسبب استمرار ارتفاع أسعار الغذاء، بحسب بيان للجهاز المركزي للإحصاء، وقالت الهيئة السودانية، يوم السبت: "إن معدل التغيير السنوي (التضخم) سجل في نيسان/أبريل 2020م 98.81% مقارنة بـ81.64% في آذار/مارس 2020م بارتفاع قدره 17.17%، وعزت ارتفاع معدل التضخم إلى استمرار زيادة أسعار الغذاء مثل الزيوت والحبوب واللحوم والبقوليات واللبن والخبز، ويعاني السودانيون منذ أشهر للحصول على الخبز ووقود السيارات والغاز المنزلي وتشهد منافذ هذه السلع طوابير انتظار طويلة. (صحيفة السوداني 16 أيار/مايو 2020م)
على الرغم من المصادر الطبيعية الهائلة والموارد البشرية الكبيرة في السودان إلا أنّه بلد تجتاحه الأزمات الاقتصادية المتعددة منها مشاكل انخفاض حجم الإنتاج الزراعي والصناعي والبطالة وزيادة الضرائب وغيرها من المشاكل التي تُسبب شلل العجلة الاقتصادية، وارتفاع الأسعار الذي يقود إلى التضخم.
هذا التضخّم يظهر في انخفاض القيمة الشرائية للعملة حيث إنّ التزايد المستمر في الأسعار يؤدي لانخفاض القدرة الشرائية، إذ إنّ المال ذاتَه يشتري أشياء أقّل ممّا كان يفعل سابقاً، ممّا يقود لانخفاض مستوى معيشة الأفراد، كما يُعتبر معدّل التضخّم أمراً حسّاساً يحدّدُ مؤشر الفقر.
وللتضخم أسباب إلا أن المتتبع للسياسات التي تمارسها الحكومة السودانية في الآونة الأخيرة بأمر من صندوق النقد الدولي يتبين له سبب هذا التضخم الهائل الذي يكاد يعصف بمصالح الناس ويهدد أرزاقهم ألا وهو طباعة الأوراق المالية مع عدم وجود إنتاج فعلي، عدا شركات النهب الرأسمالية التي تعمل في مجال المواد الأولية لتصديرها إلى الخارج، كما أن التضخم أمر لا بد منه في ظل هبوط قيمة الجنيه أمام الدولار.
في ظل هذه الظروف الاقتصادية الصعبة يصدر قرار زيادة الأجور لموظفي القطاع العام بنسبة 569% فما هي حقيقة هذه الزيادة وما هو تأثيرها على التضخم؟
وزير المالية أدلى بتصريحات عديدة حول الموارد الكافية لتغطية زيادة المرتبات 569% فقال بأنه سيتجه إلى إيرادات الضرائب والجمارك، وفي تصريح آخر قال: "إن أموال رموز النظام السابق التي حازتها لجنة إزالة التمكين تكفي لذلك، كما صرح أيضا بأن رفع الدعم سيوفر أموالاً كفيلة بسد أجور العاملين"، ولكن نتائج الربع الأول من الميزانية غير مبشرة إذ حققت الإيرادات 47% فقط من توقعات الميزانية بحسب تقرير رسمي صادر من وزارة المالية، أما أموال لجنة إزالة التمكين فهي لن تمول زيادة الأجور إلا لفترة محدودة، وهذا لا حل أمام الوزير مقابله إلا بطباعة الأوراق النقدية بالتريليونات ما يعني المزيد من التضخم وبالتالي يصبح رفع الدعم عصا مقابل جزرة زيادة الأجور.
إن تصاعد عملية التضخم أمر حتمي في ظل طباعة ما يزيد عن 40 مليار جنيه مما هو مقدر في الميزانية بـ61 مليار جنيه ولم ينتصف العام بعد، وهذا ما سيقود لزيادة مهولة في الأسعار، والمتابع يعي أن الكتلة النقدية أصلاً متضخمة بسبب عدم وجود إيرادات لتغطية المصروفات بالميزانية، فهل هكذا تحل المشاكل الاقتصادية؟
ولكن الغريب في الأمر أن السيد الوزير قال في لقاء لصحيفة التيار إن هذه الزيادة في الرواتب لن تؤدي إلى زيادة ارتفاع معدلات التضخم، مشيراً إلى أن ارتفاع التضخم كان بسبب زيادة الكتلة النقدية بصورة مضاعفة وخاصة من العام 2016م وأضاف إذا وضعنا حداً للاستدانة من النظام المصرفي ورشدنا الدعم يمكننا وضع حد لزيادة معدل التضخم، وهكذا فالوزير يطبق مثل "داوني بالتي كانت هي الداء".
إن ما قام به الوزير من زيادات في الأجور إنما هو خدعة سيدرك كل موظف واقعها بعد فترة وجيزة، فما ستكون عليه الأسواق يفوق بكثير ما هي عليه الآن من غلاء أسعار، بالمقابل ستشتعل الإيجارات وتزيد تعريفة النقل وكل السلع الغذائية والخدمات مع تصاعد أسعار الجازولين والبنزين، حينها سيؤكد المؤكد أن زيادة المرتبات مجرد ورق بلا قيمة حقيقية وأن زيادة الأجور هي مجرد غطاء لتمرير رفع الدعم الذي يفرضه صندوق النقد الدولي.
والحقيقة أن زيادة الأجور تضيف إلى عجز الموازنة عجزا إضافيا، ومهما حاول الوزير تمويل هذا العجز فلن يجد بداً من طباعة الأوراق النقدية التي ستزيد عملية التضخم.
وفي أرض الواقع عدد موظفي الخدمة المدنية بحسب التقديرات يتراوح ما بين 50 ألفاً إلى 60 ألف موظف، ولكن ماذا عن 13 مليوناً من القوى المنتجة وكيف سيواكبون الزيادة التي ستترتب على زيادة السلع نتيجة لزيادة الأجور في القطاع العام؟
لا يتجاوز موظفو القطاع الحكومي 2% من سكان السودان، أما موظفو القطاع الخاص فإن إداراتهم لا تستطيع مجاراة هذه الزيادة المهولة في الأجور وستضطر إلى زيادة تكلفة الإنتاج للقطاع الخاص كحل سترتفع بسببه قيمة السلع والخدمات التي يستهلكها البسطاء ويصبح المخرج للقطاع الخاص رفع أسعار السلع والخدمات التي يبيعونها للجمهور كطريق وحيد لتجنب الإفلاس والخروج من السوق ما يعني تآكل زيادة الأجور التي تمت في القطاع العام.
أما فكرة إعطاء ذوي الدخل المنخفض من الشعب السوداني كل واحد خمسمائة جنيه فهي فكرة أقرب للخيال وقد فشلت هذه الفكرة الآن في أيام الحظر ولم يتم إيصال أي دعم فكيف تصل هذه المبالغ التي وعد بها الوزير لأكثر من ثلاثين مليون نسمة يسكنون في كامل السودان قد تصلهم بعد أن يصبحوا في غنى عنها؟!
أما الأدهى والأمرّ فهو حال الذين لا يعملون في الخدمة المدنية وهم يفوقون 90% سيرون دخولهم الحقيقية تذوب مع ارتفاع معدلات التضخم مثل التجار والحرفيين سيرفعون أسعار خدماتهم في مواجهة التضخم ولكن هذا سوف يصب مزيداً من الزيت على نيران التضخم.
سترفع الأسعار أكثر وأكثر وستؤدي إلى تآكل الزيادة في الأجور التي حاز عليها موظفو الخدمة المدنية حتى يلتهم غول التضخم كل الزيادة الكبيرة التي بشروا بها وربما تنخفض دخولهم الحقيقية في النهاية إلى ما كانت عليه قبل الزيادة أو أقل. حينها سيكتشفون أن زيادة مرتباتهم من غير موارد تمويل حقيقية لم تكن سوى خدعة لشراء تأييدهم لحكومة الفترة الانتقالية لرفع الدعم وإنفاذ روشتة صندوق النقد الدولي.
المشكلة الحقيقية تكمن في أسس النظام الرأسمالي الذي يعتبر المشكلة الاقتصادية هي نقص السلع والخدمات مقابل الحاجات وهو ما يسمونه بالندرة النسبية، ويعتقدون أن حل تلك المشكلة يكون بزيادة الناتج القومي الإجمالي عن طريق جذب الاستثمارات الأجنبية. ومن عوامل الجذب عندهم تعويم العملة، والمشكلة الأكبر من ذلك هي اعتقادهم أن توزيع هذا الدخل سيكون تلقائياً عن طريق مشاركة الناس في العملية الإنتاجية، بل يعتقدون أن تدخل الدولة في توزيع الثروة خطأ وعبء على الاقتصاد ونموه فاتجهت الدولة لرفع الدعم عن السلع التموينية والطاقة وتقليص عدد العاملين في الدولة وبيع ما تبقى من القطاع العام، وهذا كله بناء على شروط صندوق النقد الدولي مقابل قرض ربوي لا يسمن ولا يغني من جوع، ويضاف إلى ذلك نظام النقد الورقي الهش القائم على أساس ورقة الدولار التي لا تستند لشيء إلا لسندات وأذونات خزانة أمريكية.
إن الاقتصاد يعني تدبير شؤون الدولة، بإيجاد المال ابتداءً أو تنميته أو توزيعه، وحينما نتحدث عن هذه الأزمات الاقتصادية التي أنتجها النظام الرأسمالي فإنها مشاكل لا يمكن حلها تتعلق بتدبير شؤون المال، والتي أدت إلى أزمات اقتصادية في اختلال النظام النقدي، وطبيعة النظام الربوي، وأنواع الملكية في النظام الرأسمالي وغيرها ولا مجال لرتق ثوب الرأسمالية البالي بل لا بد من رميه في هاوية سحيقة غير مأسوف عليه وتبني نظام العدل الرباني الذي تنفذه دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة القائمة قريبا بإذن الله.