مع صدور العدد 300 من جريدة الراية - عسى الله أن يبلغها الألف، وقد أعز الله دينه وعباده العاملين - يكون قد مر على انفجار بيروت الكارثي أسبوعين، ليدخل الحدث، كما هو كثيرٌ من قضايا لبنان، في غياهب الضياع والفساد والتسويف، دون أن تتبين حقيقة، فتضيع دماء الأبرياء على مذبح الطبقة السياسية الفاسدة، التي ما زالت تستطيع أن تخرج للإعلام - بلا حياءٍ - متحدثةً مصرحةً! ولو كان هذا الأمر في منظومة تحترم الإنسان، وتصون دمه وماله وعرضه، لكان هؤلاء اليوم في السجون يحاكمون، فينال الفاسد الظالم جزاء ما اقترفت يداه.
يمكن رواية المشهد في النقاط التالية:
- وصل الرئيس الفرنسي ماكرون في 6/8/2020م، ونزل بين الناس، كأنه حاكم لبنان، خاطبهم بالتغيير على مستوى ميثاقي، وأن لبنان بحاجة لعقد سياسي جديد! ثم كانت تصرفاته خلاف ذلك، حيث التقى بالطبقة السياسية ذاتها، بل بقادة أحزابها، وحثهم على الثقة ببعضهم، ونبذ خلافاتهم الاستراتيجية كما سماها، والعمل على إصلاح الفساد لا سيما في قطاع الخدمات. وكأن المشكلة هي في الخدمات، وليست في هؤلاء الفاسدين أس البلاء، الذين اجتمع بهم. وخرج من لقائهم مطالباً بحكومة وحدة وطنية، وإنْ بتمثيل غير بارز لحزب إيران في لبنان.
- عقب هذه الزيارة، تواصل رئيس أمريكا ترامب مع ماكرون، الذي أطلعه على مجريات زيارته، ليتصل بعدها ترامب بالرئيس اللبناني ميشال عون، مؤكداً دعمه، وحضوره المؤتمر الدولي لمساعدة لبنان الذي دعا إليه ماكرون، فهو يدعم رأس جمهورية الفساد في لبنان، ويَعِدُ بالدعم في مؤتمر دعم لبنان.
- ثم وصل ديفيد هيل نائب وزير الخارجية الأمريكية في 13/8/2020م، وبالسيناريو ذاته؛ نزول إلى الشارع، ثم لقاء بالطبقة السياسية عينها، مطالباً إياها بحكومة، لكن بصياغةٍ أخرى، هي حكومة حيادية، مما يعني مستقلين، والذي يؤدي إلى تقليص وجود حزب إيران في الحكومة ولو بشكلٍّ ظاهري.
- وهذا يُظهر طبيعة التنسيق الأمريكي الفرنسي في المشهد السياسي اللبناني، أو ما يُرى من تناغم أمريكي فرنسي، فإن ما يدفع أمريكا لذلك، ليس قدرة فرنسا على الصراع في لبنان، فهي لا تملك تلك القدرة الحقيقية على الأرض، بل هو أن ما تطلبه فرنسا من تقليص ظهور حزب إيران في المشهد لمصلحتها، هو متناسبٌ - في المرحلة الحالية - مع المسعى الأمريكي لتقليص نفوذ إيران في المنطقة، وهذا حاصلٌ في سوريا والعراق، وممتد إلى لبنان على ما يبدو، أي تجميد أذرع إيران العسكرية، وصولاً إلى توقيع الاتفاق النووي أحادي الجانب مع أمريكا، في مسعىً أمريكي إلى مزيدٍ من الإخضاع لإيران، ولن تسمح أمريكا بأكثر من ذلك لفرنسا وغيرها.
- فالمشهد السياسي من الناحية الدولية لا يتسم بالصراع على لبنان، فالطرف الأقوى في لبنان هو أمريكا، وتحاول أوروبا وبخاصةٍ فرنسا الحصول على مزيدٍ من المكتسبات، لا سيما أن منطقة شرق المتوسط تطفو على ثروةٍ هائلةٍ من الغاز الطبيعي تصل إلى تريليونات الأمتار المكعبة.
- واستطراداً؛ فإن هذا ينقلنا إلى مشهد القطع البحرية العسكرية، التي صارت تصل إلى قرب شواطئ لبنان، قطعٌ فرنسية وبريطانية، ما أوهم بعضهم أنها لأجل لبنان، ولكن الأرجح أنها تتعلق بالصراع الذي هو على صفيحٍ ساخنٍ، بشأن التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، والذي تمثل بالاحتكاك بين الدول الدائرة في فلك أمريكا، أي تركيا من طرف، واليونان وقبرص "اليونانية" من طرفٍ آخر، ما استدعى تدخلاً أوروبياً تمثل بتدخل خاص من مسؤولين في الاتحاد الأوروبي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والتي استطاعت أن تقنع تركيا في حينه بتعليق أنشطة سفينة التنقيب أوروتش رئيس، التابعة للبحرية التركية في شرق المتوسط، كبادرة حسن نية لإعطاء فرصة للدبلوماسية. ومع تجدد الأزمة في الأيام الأخيرة، هبطت مقاتلات فرنسية في قاعدة أندرياس باباندريو في قبرص اليونانية، إضافة إلى أن مروحيات لكيان يهود وصلت إلى قبرص اليونانية، ووصلت بارجة بريطانية، إلى قرب مرفأ بيروت، قيل إنها لرصد الأضرار التي خلفها الانفجار، ووصلت حاملة طائرات مروحية كذلك بالذريعة نفسها. فهل هذا كله من أجل لبنان، وإن كان يمكن أن يعطي نفَساً لرجالات أوروبا بقرب أسيادهم منهم؟! قطعاً هو ليس من أجل لبنان، فهذه الدول ليست جمعياتٍ خيرية، لكننا اليوم أمام بازار اقتصادي في المنطقة، العنوان الرئيس فيه الغاز في شرق المتوسط، والذي هو محط صراع، فلا بد لكل دولة من تأكيد حضورها في المشهد؛ وذريعة لبنان مناسبةٌ لهذا الوجود، ولا يخرج لبنان عن كونه في قلب الساحل الشرقي للمتوسط. وقد صرح ماكرون عبر حسابه على تويتر قائلاً: (لقد تحدثت إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول الوضع في شرق البحر الأبيض المتوسط وليبيا ولبنان. نحن نتشاطر نفس الآراء. إن السلام والأمن في المنطقة من مصلحتنا المشتركة، وسوف ندعمها).
وأخيراً، يلفت النظر هنا، ما قام به رئيس الحكومة اللبنانية حسان دياب، وهو من الناحية السياسية لا يعد حزبياً تابعاً لأحد الأحزاب القائمة، حين وجد أنه سيتم توريطه في قضية المرفأ، من أنه حذر من الاستقالة بعد شهرين، وقال إنه سيقدم برنامج انتخابات نيابية مبكرة، وما هما إلا يومين وليس شهرين، حتى خرج معلناً استقالة حكومته، فيما بدا واضحاً أنه حصل بعد تواصل رجالات أمريكا في لبنان بهذا الشأن، ما أدى للمسارعة بإنهاء "حكومة تمرير الوقت" قبل وقتها المفترض. فأمريكا ترفض الانتخابات النيابية المبكرة التي تُبنى على حل البرلمان الحالي، ولا أدل على ذلك من لقاء هيل-جعجع، ثم تصريح جعجع الذي عكس طبيعة البحث بينهما، لناحية فرض أمريكا لتشكيل حكومة دون انتخابات نيابية مبكرة (...وقد أكّد جعجع للمبعوث الأمريكي أنه إذا كان لا مفر في الوقت الراهن من تشكيل حكومة جديدة ومستقلّة فعلياً من أجل الاهتمام بشؤون الناس الآنيّة الملحّة، إلا أن الحل الفعلي للخروج من الأوضاع المترديّة التي وصلت إليها البلاد يبقى كامناً في تقصير ولاية مجلس النواب الحالي والدعوة لانتخابات مبكرة...).
ختاماً، فإن المشهد: انفجار زلزالي، أعقبه حضورٌ دولي، أكد تشكيل حكومةٍ جديدةٍ من الوسط السياسي التقليدي، مع تقليص لنفوذ حزب إيران الحكومي، واستغلال لقضية الانفجار ليكون ذريعةً لوجودٍ استعماري، للاستيلاء على ما ظهر من ثروات للأمة.
وإننا لنسأل الله عز وجل القادر، أن يعجل بفرجه استخلافاً وتمكيناً وأمناً، فلا تكون ثروات الأمة وبالاً عليها، في استجلاب المستعمرين، بل خيراً لها في عمارة الأرض وإنقاذ البشرية...