ما إن انتشرت أخبار طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول 2023م حتى استنفر الغرب وعلى رأسه أمريكا بشكل جنوني وجاء إلى المنطقة بقوى حربية ضخمة، وأعلن عن حق كيان يهود في الدفاع عن نفسه، ودعمه عسكرياً ومالياً وقانونياً ومعنوياً وهو يهدم غزة على رؤوس أهلها، ويقتلهم بغير أي ضابط أو رادع إنساني أو قانوني. وحشد الغرب في المنطقة عدة حاملات طائرات وبوارج حربية وآلاف الجنود والصواريخ المتطورة.
إن أخبار هذه الحرب على غزة تملأ الدنيا، وما فيها من أعمال إبادة وجرائم يفوق التصور، ومثلها أيضاً تصريحات حكام الغرب الصارخةُ في الكذب الممجوج، وفي استفزاز من عنده أدنى حِسّ إنساني. وقد كان لافتاً بالفعل أن لا تكتفي الولايات المتحدة بحاملة الطائرات يو إس إس جيرالد فورد، فتُلحقها بالحاملة يو إس إس أيزنهاور، ولم تكتفِ بمختلف أنواع الصواريخ وكمياتها، فتلحقها بصواريخ ثاد وغيرها مما لم تفصح عنه. وتعلن عن تزويد جيش يهود بأضعاف ما قد يلزمه، ناهيك عن مليارات الدولارات تلو المليارات، وكأنَّ غزةَ إمبراطورية عظمى، وتقتضي محاربتها هذا الاستنفار العالمي! فهل عملية طوفان الأقصى هي سبب هذا كله، أم أنَّ في غزة قوةً تشكل خطراً على كيان يهود والغرب تستدعي هذا التحشيد؟
والواقع أنه لكلٍّ من هذين الأمرين دوره في هذا الاستنفار والهجوم العالمي، ولكنه ليس الدور الأكبر أو الأهم. فرغم ما أوقعته عملية طوفان الأقصى من خسائر وإثخان في يهود وجيشهم، فهي ليست سبب هذا الاستنفار والهجوم، وإنما السبب هو تداعيات العملية التي تجاوزت توقعات صانعي السياسات والمراقبين والذين خططوا لها. كما أن قوة غزة وأسلحتها ليست مما يُقارن بأسلحة كيان يهود، فلا تستدعي مجيء هذه الترسانات والقوافل الحربية الغربية المتلاحقة، وإنما هي قوة الإيمان والرضا بقضاء الله والصبر، ورفض الاستسلام، والتحدي الذي بلغ حدوداً ما كان الغرب ليتوقعها أو يفهمها، ما زاد من حقده ووحشيته وخوفه في آن.
أما تداعيات العملية فهي الخوف الذي دبَّ في جنود يهود ومستوطنيهم في غلاف غزة، ما جعلهم يفرون مرعوبين ويتصلون ببعضهم وذويهم وغيرهم، يبكون ويستصرخون. ولما كانت عملية الطوفان تجري في أكثر من منطقة، انتشر الرعب على نطاق واسع، وظن يهود أن الهجوم آتيهم من كل مكان، من غزة ومن الضفة ومن لبنان، فمُلئوا رُعباً، وازداد جبنهم، وانتشر الخوف في كل كيان يهود وفي جيشهم. وأخذوا يتقاطرون إلى المطارات للفرار. وأخذوا يستنجدون بالغرب الذي رأى الأمر خطِراً على وجودهم، وبالتالي على مصالحه وهيمنته على المنطقة. إذ إن هذا الكيان هو أضخم وأهم قاعدة عسكرية لأمريكا والغرب في بلاد المسلمين. وأن تفعل فئةٌ قليلة هذا الفِعل فيه يُجرِّئ أهل المنطقة عليهم وعلى الحكام العملاء، وقد يجرفهم ويجرف النفوذ الغربي من المنطقة، ويهدد نظامهم الدولي. وبتعبير آخر: قد تؤدي عملية طوفان الأقصى إلى نهاية النظام الدولي المصنوع والمُهَندَس لفرض الهيمنة الغربية على العالم. لذلك، أُصيبت الولايات المتحدة ودول أوروبا بهستيريا شديدة، وقرروا القضاء على هذا الخطر المصيري بشكل عنيف وحاسم، الأمر الذي سيؤدي إلى غضب العرب والمسلمين في العالم، وقد يحركهم ويدفع جيوشهم لمواجهتهم. لذلك رأيناهم شديدي الحذر ويزيدون التحشيد باستمرار، ويهددون أي دولة أو جهة تفكر بالتدخل، متذرعين بأنه من حق يهود الدفاع عن أنفسهم.
أما صمود أهل غزة وعدم استسلامهم، فهو يعني عجز يهود ومن خلفهم بقواهم الضخمة عن الانتصار عليهم. وهذا بدوره كسرٌ لهيبة الغرب كله أمام صمود غزة، بل هو هزيمةٌ له وانتصارٌ لغزَّة، ويُجرِّئ أهل المنطقة وغيرهم على مواجهته وليس مواجهة كيان يهود فقط. وهذا أيضاً تهديدٌ للنظام الدولي يحاربه الغرب بكل قواه.
ويجدر بالذكر أن هذا التهديد للنظام الدولي أخطر من تهديد روسيا له أو الصين، لأنه تهديد بانتصار الإسلام واستعادة المسلمين كيانهم ووحدتهم، وهذا خطَرٌ على أمريكا والغرب لا يدانيه أيُّ خطرٍ آخر. وقد أشار هنري كيسنجر إلى تهديد عملية طوفان الأقصى للنظام الدولي، ونصح بمعاقبة الذين قاموا بهذه العملية مع الحذر من أن تؤدي هذه العقوبة إلى تصعيد خطير في المنطقة، كما نصح بدعم كيان يهود ليضرب إيران إذا كان لها يدٌ في هذه العملية، فقال: "إن العدوان الروسي المستمر في أوكرانيا، إلى جانب هجوم حماس على (إسرائيل)، يمثل هجوماً رئيساً على النظام الدولي". وقال: "هناك خطر أن يتمدد النزاع في الشرق الأوسط ليشمل دولاً عربية أخرى وإيران، وذلك تحت وطأة الرأي العام". وقال: "من المحتمل أيضاً أن تتخذ (إسرائيل) إجراءات ضد إيران، إذا اعتبرت أن طهران كان لها يد في ارتكاب الهجوم". (موقع إندبندنت العربي)
وبناءً على هذه الوقائع والتداعيات، فإنه من الأهمية بمكان أن تدرك جيوش المسلمين والعاملون للتغيير، أن الحرب الجارية الآن على غزة والمنطقة هي فرصةٌ وأيُّ فرصة، للانقضاض على كيان يهود وعلى هذه القوى الغربية والقضاء على هيمنتها واستكبارها، فإذا فعلوا ذلك أنقذوا المستضعفين من أهل غزة وسائر الأمة مما هم فيه، وحوَّلوا طوفان الأقصى الذي زلزل كيان يهود، إلى طوفان أمة يشدخ نافوخ الكفر، ويسقط النظام العالمي الغربي برمته، ويستأصل كيان يهود من شأفته، ويستعيد عزَّ الأمة الإسلامية وانتصاراتها ومجدها. قال تعالى: ﴿وَنُريدُ أَنْ نَمُنَّ عَلى الَّذين اسْتُضْعِفوا في الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِين﴾ [سورة القصص: 5].
بقلم: الدكتور محمود عبد الهادي