تندلع في هذه الأوقات أزمات مُتعدّدة ومُتلاحقة في منطقة الشرق الأوسط وامتداداته؛ فمن فلسطين حيث تشتعل حرب غزة التي تُلقي بشررها على جميع بقاع العالم، وتنبعث منها بؤر اشتعال تنتشر في مناطق عدة في أرجاء العالم الإسلامي، بدءاً من منطقة باب المندب وجنوب البحر الأحمر والقرن الأفريقي واليمن والسودان جنوباً، ثمّ صعوداً إلى الحدود الأردنية السورية، وتصل شمالاً إلى تركيا والمناطق الحدودية مع سوريا والعراق، ثمّ تتّجه شرقاً إلى منطقة بلوشستان في كلٍ من إيران والباكستان.
لقد قامت إيران - ومن دون سابق إنذار - بقصف مدينة أربيل شمال العراق حيث قالت بأنّ فيها مركزاً استخبارياً صهيونياً، ثمّ وفي التوقيت نفسه قصفت إيران مواقع باكستانية قالت بأنّها تابعة لتنظيم سنّي إيراني انفصالي له قواعد في منطقة بلوشستان الباكستانية.
وفي حين ردت الحكومة العراقية على القصف الإيراني باستدعاء سفيرها من طهران، وبشكوى ضد إيران قدّمتها إلى الأمم المتحدة، ردّت باكستان على إيران بقصف عسكري كثيف ضد مجموعات انفصالية باكستانية قالت إنّ مقارّها موجودة داخل إيران في منطقة بلوشستان الإيرانية، ثمّ تطوّر القصف بين الدولتين وتحوّل إلى اشتباكات مُتقطّعة.
وعلى الحدود السورية الأردنية تكرّرت حوادث الاشتباكات والقصف الذي تقوم به الطائرات الأردنية ضدّ ما تصفه الحكومة الأردنية بحركة مُهربين بين سوريا والأردن، سُرّبت منها معلومات عن تورط رجال أعمال أردنيين لهم علاقة بالمُهرّبين المزعومين.
وأمّا في المناطق الحدودية لسوريا والعراق مع تركيا، وبعد مُهاجمة المليشيات الكردية الانفصالية للقوات التركية في وقتٍ سابق، وقتلها بضعة جنود أتراك، ردّت تركيا عليها بقصفٍ واسع ضدّ مقار هذه المليشيات داخل الأراضي العراقية والسورية، وقال الرئيس التركي أردوغان إنّ تركيا ماضية في مُحاربة (الإرهاب) في سوريا والعراق إلى أنْ يتم القضاء عليه.
وفي السودان يستمر الصراع الدموي العنيف بين الجيش السوداني بقيادة البرهان رئيس الجمهورية وبين قوات الدعم السريع بقيادة نائبه السابق حميدتي، وينتقل هذا الصراع ويتدرّج جغرافياً - بكل وحشية وعشوائية - من ولاية إلى أخرى، من غير توقف ولا هُدن، مُولّداً كوارث ومآسي إنسانية مؤلمة.
ومن اليمن تستمر الهجمات الصاروخية وهجمات المُسيّرات التابعة للحوثيين على السفن التجارية في البحر الأحمر وبحر العرب والمُتّجهة إلى ميناء إيلات التابع لكيان يهود داخل الأراضي العربية المُحتلة مُنذ عام 1948.
وأمّا في الصومال فتنفجر أزمة جديدة بسبب توقيع اتفاقية غير شرعية بين إثيوبيا وبين جمهورية أرض الصومال الانفصالية، تُمنح بموجبها إثيوبيا الحبيسة ميناءً بحرياً بالإيجار لمدة خمسين عاماً بطول 20 كيلومتراً بالقرب من أهم موانئ الصومال ليتحوّل في قابل الأيام إلى قاعدة عسكرية واقتصادية إثيوبية تُهدّد وتُطوّق مصر والسودان والصومال في منطقة القرن الأفريقي وجنوب البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وتخلق معها اضطرابات كبيرة في مُحيط إثيوبيا الإقليمي.
والتساؤلات التي تطرح نفسها هنا هي: لماذا تندلع هذه الأزمات في هذا التوقيت بالذات؟ وهل هي مقصودة أم ذاتية؟ ومن يقف خلفها؟ وما هي أهدافها؟
إنّ هذه الأزمات والنزاعات والصراعات المُندلعة منها ما هو قديم كالصراع في السودان الذي تُغذيه أمريكا لتمنع القوى المدنية التابعة لأوروبا وبريطانيا من الوصول إلى الحكم، ولا تُريد أمريكا حالياً إيقافه خاصةً في ظل انشغالها بحرب غزة، ومنها ما هو ناتج مُباشرةً عن حرب غزة كهجمات الحوثيين على السفن المُساندة لكيان يهود، وهذا نزاع مُريح لأمريكا، وهو نزاع تحت السيطرة، وأهدافه معروفة ومصنوعة، منها الضغط على كيان يهود، ومنها تضخيم قوة الحوثيين ليكونوا حكاماً شرعيين لليمن، ومنها ابتزاز أوروبا والصين تجارياً وملاحياً.
وأمّا تكرار حوادث قصف الطيران الحربي الأردني لما يُقال إنّه نشاطات غير مشروعة للمُهرّبين على الحدود الأردنية السورية، وتسريبات عن وجود علاقة للمهربين مع رجال أعمال أردنيين فهذه الحوادث لها أبعاد محلية وليست إقليمية، وهدفها الرئيسي هو التغطية على خيانة النظام الأردني وتواطئه مع دولة الاحتلال في حربها الإجرامية على غزة وخذلانه لأهل غزة وفلسطين في الأوقات العصيبة، ومثل هذا الهدف للنظام الأردني ما يجري من اشتباكات على الحدود التركية مع سوريا والعراق حيث تهدف لتشتيت الانتباه عن محورية القضية الفلسطينية، واختلاق أزمات جديدة بعناوين جديدة وأهمّها الحرب على الإرهاب وإشغال تركيا بها، ومثلها كذلك الهجمات المُتبادلة بين باكستان وإيران فهي على الأرجح حوادث مُفتعلة لإشغال قوة إسلامية كبيرة كباكستان بقضايا هامشية تافهة.
أمّا إثيوبيا فهي تُخطّط مُنذ مُدة للوصول إلى موطئ قدم لها على البحر، واستغلت انشغال أمريكا والعالم بحرب غزة، فقامت بالتنسيق مع إقليم جمهورية أرض الصومال الانفصالي بترتيبات سياسية لتأجيرها ميناء بحرياً قرب ميناء بربرة الصومالي مُقابل اعترافها بالإقليم كجمهورية مُستقلة عن الدولة الصومالية الأم، وبالتعاون مع الإمارات ربيبة بريطانيا، وبالتنسيق مع بريطانيا نفسها، في وقتٍ لا تجد فيه أمريكا الحافز على الاعتراض لمنع تحقيق تطلّعات إثيوبيا الإقليمية الكبيرة المدعومة من بريطانيا وكيان يهود والإمارات، بالإضافة إلى ارتباط إقليم أرض الصومال الانفصالي بها لوحدة وتشابك المصالح بينهما.
صحيح أنّ أمريكا في هذه الأثناء غير معنية بالتصعيد الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط وامتداداتها، ولا تُريد توسيع الصراع في الشرق الأوسط، وتود حصره في غزة فقط، لكنّ هذه النزاعات الصغيرة لا تؤثّر على المُستوى الاستراتيجي للسياسات الخارجية الأمريكية، ولا يُعتبر خرقاً للثوابت الأمريكية المعروفة والمعنية بالتهدئة والاستقرار، وذلك من أجل التفرغ للصراع مع الصين وروسيا، لا سيما وأنّها تُشغل المُسلمين ببعضهم في نزاعات جانبية تجعلهم لا يضغطون على دولهم بقوة - كما ترى أمريكا - للدخول في حربٍ ضدّ كيان يهود قد تجعله في مهب الريح.