تستخدم الدول الكبرى - في ظروف سياسية مُعيّنة - العديد من أدواتها وعملائها استخداماً يخدم أغراضها، فتحمّلهم أفكارها وأطروحاتها، فيقومون بدورهم بطرح أفكارها وكأنّها من نتاج تفكيرهم وخططهم، مع أنّهم مُجرد ناقلين وحاملين لها!
وتهدف الدول الكبرى من استخدامهم في نقل أطروحاتها إلى دراسة وفحص ردود أفعال القوى الدولية أو الإقليمية أو المحلية حول مُبادرات تنوي الدول الكبرى طرحها، أو طرح بعض منها في المُستقبل لمُعالجة مُشكلة سياسية مُعينة تقع في مناطق نفوذها، فتتحسّس بذلك إمكانية نجاح تلك المقترحات من خلال ملاحظة ردات الفعل تلك، بالإضافة إلى استخدامها كنوع من الضغوط الأولية التي تُمارسها على السياسيين الرافضين لتلك المُبادرات.
وبناءً على هذا الأسلوب من التخطيط والتدبير والتكتيك يبدو أنّ أمريكا رأت أنْ تستخدم في هذه الأثناء كلاً من الرئيس المصري والرئيس التركي في تحقيق أهدافها السياسية في الشرق الأوسط بعد انتهاء حرب غزة من خلال طرح تلك المقترحات لجس نبض حكام كيان يهود تجاهها من ناحية، ولترويض زعماء الكيان والضغط عليهم من ناحيةٍ ثانية، ومن ثمّ لحملهم على التجاوب مع المقترحات الأمريكية التي تُحضّرها في المُستقبل، والتي يطرح عملاؤها نماذج منها بصيغٍ أولية.
ومن هذه المُقترحات ما طرحه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حول فكرة الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، حيث قام بطرحها مرتين خلال حرب غزة باعتبارها حلاً عملياً للصراع الفلسطيني مع دولة يهود، فاعتبر أنّ إنشاء هذه الدولة الفلسطينية مرهونٌ بوجود قوات دولية من الناتو، أو من قوات مُشتركة أمريكية وأوروبية وعربية، وجاء طرح السيسي هذا في مُناسبتين: الأولى في مؤتمر صحفي عقده مع المستشار الألماني أولاف شولتس بتاريخ 18/10/2023، والثانية في مؤتمر صحفي آخر مع رئيسي وزراء بلجيكا وإسبانيا بتاريخ 24/11/2023.
والجديد اللافت في طرحه لفكرة الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح هذه المرة - وفي هذه الظروف بالذات - هو ربطها بفكرة القوات الدولية، وهي الفكرة التي يبدو أنّ أمريكا تريد الآن تسويقها، والضغط بها على كيان يهود لحمله على قبولها. لا سيما وأنّ المشكلة عند قادة يهود لا تكمن بقبولهم بدويلة فلسطينية منزوعة السلاح، بل المشكلة عندهم تتعلّق بوجود القوات الدولية التي يُدركون أنّها تُحجّمهم، وتُقيّد توسع دولتهم، وتجعل من القوات الأجنبية أداة فاعلة تتحكم بأمنهم وبوجودهم ومُستقبلهم.
والدليل على ذلك ما سبق أن طرحه زعماء يهود عن الدولة الفلسطينية في مُناسبات عدة، وكان طرحهم إذّاك ينفي وجود قوات دولية على حدود الدولة الفلسطينية، فقد طرح أرئيل شارون رئيس وزراء كيان يهود في سنة 2001 فكرة إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح يُراقب الجيش اليهودي حدودها وليس القوات الدولية، وعبّر نتنياهو عن استعداده لقبول دولة فلسطينية منزوعة السلاح، ولكن لا تملك أي قوة عسكرية أو عتاد تسليحي، وبشرط أنْ تعترف بــ(إسرائيل) كدولة قومية للشعب اليهودي، وكذلك دعمت وزيرة خارجية دولة يهود بين عامي 2013 و 2014 فكرة إيجاد دولة فلسطينية منزوعة السلاح بشرط عدم وجود قوات دولية.
وهكذا كان هاجس زعماء دولة يهود دائماً هو خوفهم من فكرة القوات الدولية، فكانوا دائماً يُصرّون على تجريد الدولة الفلسطينية منها، واستبعادها تماماً.
وأمّا السلطة الفلسطينية فقد قبلت بفكرة الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح حتى من دون أنْ يعرضها عليهم أحد، وظهر ذلك في مُناسبات عدة؛ ففي سنة 2013 قال محمود عباس لصحيفة هآرتس العبرية: "إنّ الدولة الفلسطينية ستكون منزوعة السلاح"، وفي سنة 2014 قال عباس لصحيفة نيويورك تايمز: "إنّ الدولة الفلسطينية لن يكون لها جيشها الخاص بل قوة شرطة فقط"، وفي سنة 2018 أبلغ وفداً يهودياً زاره أنّه مُوافق على دولة فلسطينية منزوعة السلاح بلا جيش ولا قوة عسكرية نظامية لها، وأنْ يكون تسليحها خفيف للشرطة (هراوات وليس مُسدّسات)، وهذا ما لم تطلبه منه حتى دولة يهود!
فالمشكلة بين أمريكا وكيان يهود باتت تتركّز حول القوات الدولية التي تُصرّ دولة يهود على رفضها، بينما تُريد أمريكا تطبيقها، وتستخدم أمريكا مصر في التمهيد لها من خلال مُقترحات السيسي المُتكرّرة، فيما رفضها نتنياهو صراحة في اليوم التالي لعرض السيسي لها، وكان ذلك الرفض بتاريخ 25/11/2023 بادّعائه أنّ فكرة الدولة الفلسطينية باتت قديمة، وأنّ ما كان قَبِله في عام 2009 لم يعد مقبولاً في عام 2023.
وأمّا الرئيس التركي أردوغان فقدّم هو الآخر مُقترحاً مشبوهاً يتعلّق بضرورة إيجاد (بُنية أمنية في غزة) تكون تركيا جزءاً منها، وقال بأنّ: "تركيا تُناقش الفكرة مع الأطراف الدولية والإقليمية لإنضاجها"، وهذه فكرة أمريكية بامتياز يتم تدارسها بين دول المنطقة، لضمان أمن كيان يهود، وضمان عدم إطلاق النار نهائياً على كيان يهود من قطاع غزة في المُستقبل، وذلك لطمأنة هذا الكيان على سلامته قبل الخوض في مُبادرات سياسية، بمعنى أنْ يكون الحل في البداية حلاً أمنياً يُقنع قادة دولة يهود، ثمّ يتبعه فيما بعد الحل السياسي.
إنّ هذه المُقترحات المشبوهة التي يُسوّقها السيسي وأردوغان ما هي سوى مُقترحات أمريكية تهدف إلى إقناع كيان يهود بها، كما تهدف إلى التوطئة لها من خلال أدواتها من أجل تسويقها، ووضع مُبادرة سياسية أمريكية للمنطقة يتم تحضيرها وإعدادها.
إنّ هذه المُقترحات المشبوهة ينبغي كشفها، وإماطة اللثام عن أبعادها ومراميها، وفضح من يحملها ويتبنّاها كالسيسي وأردوغان، ثمّ بيان كونها مُقترحات سياسية وأمنية أمريكية ترمي إلى حماية أمن يهود، وتصفية القضية الفلسطينية.