شاهد العالم كله كيف استطاع أبطال غزة في يوم واحد أن ينسفوا كل ما نسج من أوهام طوال 75 عاما حول أسطورة الجيش الذي لا يقهر، ليستفيق الناس صبيحة يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، على درس عسكري سيدرس للأجيال القادمة، وعلى حقيقة كيان هش هو أوهن من بيت العنكبوت. وهي حقيقة بحجم فضيحة دولية لا يستطيع محوها من الأذهان، لا نتنياهو ولا غيره ممن يزعمون أنهم قادرون على إنقاذ هذا الكيان المسخ من زواله الحتمي. فكيف لو انضم لقتال يهود ولنصرة أهل فلسطين جيش نظامي بحجم الجيش الجزائري الضخم بما يمتلكه من عدة وعتاد وطائرات جوية وأسطول بحري يجعله يتصدر المراتب الأولى عربيا وأفريقياً؟ وكيف لو لبّى أبطال الجيش الجزائري نداء حرائر غزة وسارعوا إلى نصرتهم وشارك في نيل هذا الشرف جيش تونس الأبيّ؟
هذا ما ينشده كل مسلم في شمال أفريقيا بلا شك، ولكن هل هذا هو موقف هذه الأنظمة مما يجري، أم أنها جزء من المشكلة لا من الحل؟
فبعد أكثر من 10 أيام من القصف المستمر على قطاع غزة، أكدت الرئاسة الجزائرية في بيان: "ترأس يوم الاثنين 16 أكتوبر 2023، السيد عبد المجيد تبون، رئيس الجمهورية، القائد الأعلى للقوات المسلحة، ووزير الدفاع الوطني، اجتماعا للمجلس الأعلى للأمن". وأضاف البيان: "بعد دراسة الأوضاع المأساوية الراهنة للشعب الفلسطيني الشقيق وعمليات الإبادة الجماعية الممنهجة التي ترتكبها قوات الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تبدي الجزائر رفضها لهذه العمليات ضد المدنيين العزل، مؤكدة تضامنها الكامل مع الشعب الفلسطيني الشقيق، مع قناعتها التامة بأن الحل الجذري لا يكمن في الإبادة ولا الترحيل الجماعي ولكن بإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف على حدود يونيو 1967"!
أي أن الإبادة الجماعية التي يتعرض لها أهل فلسطين وشلالات الدماء التي تسيل يوميا وكل جرائم الحرب التي اقترفها قادة كيان يهود، صارت تتطلب دراسة وفهما وعمقا في بحث الأزمة وتوصيف الأوضاع المأساوية، ليخلص النظام الجزائري في النهاية ويتفطن إلى أن الحل الجذري لا يكمن في إبادة أهل غزة، وإنما في اجترار حل الدولتين الذي يُراد إحياؤه وإنعاشه فوق جثث الضحايا الأبرياء من سكان هذا القطاع!
في اليوم نفسه، استعرض وزيرا الشؤون الخارجية لتونس والجزائر بعض القضايا ذات الاهتمام المشترك، من بينها مستجدات الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة ولا سيما العدوان الذي يشنُّه كيان يهود على قطاع غزّة. وأكّدا على ضرورة تكثيف جهود التوسل على أعتاب المجتمع الدولي لوقف هذا العدوان الذي طال المدنيين والأطفال، والتشديد على ضرورة التصدي من قبل هذا المجتمع الدولي المنافق للمحاولات الرامية إلى تهجير الشعب الفلسطيني وتجريده من أرضه!
ثم بعدها بيوم، وعلى إثر استهداف مستشفى "المعمداني" في غزة على يد قوات الاحتلال، عُقد في تونس اجتماع طارئ لمجلس الأمن القومي في وقت متأخر من ليلة الثلاثاء 17/10/2023، استنكر خلاله الرئيس قيس سعيد استهداف أطفال غزة في البيوت والمستشفيات وتطاير أشلاء أجسادهم البريئة في كل مكان، وصرّح سعيّد بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة قائلا: "إننا لم نجتمع لنشجب ونندد، وإنما نؤكد ما كانت منظمة التحرير الفلسطينية تؤكده كل يوم، نؤكد عهدنا على مواصلة مسيرة النضال بالكلمة الأمينة المعبرة عن الطلقة الشجاعة من أجل تحرير كامل الوطن المحتل، بالجماهير العربية معبأة ومنظمة ومسلحة، وبالحرب الثورية طويلة الأمد أسلوبا حتى تحرير فلسطين، كل فلسطين". مضيفا أنه "من حق الشعب التونسي ككل الشعوب الحرة في العالم أن يعبر عن موقفه الثابت من الحق الفلسطيني"!
وإزاء هذا الخطاب "الثوري" المغشوش الذي يذكرنا بأيام عبد الناصر والقذافي في دغدغته للمشاعر، وبمسرحيات ياسر عرفات ومنظمة تحريره التي كلّفت بمهمّة دفن وقبر قضية فلسطين، لا يسعنا إلا أن نختصر الطريق على من يقود القوات المسلحة في تونس ويغمض عينيه عن إمكانية التنسيق العسكري مع الجزائر، لنهمس في أذن المُخلصين ونصرخ في وجه المتآمرين فنقول:
إن الكلمة التي تسحب الصفة الإسلامية من قضية فلسطين (أرض الإسراء والمعراج) ليست كلمة أمينة، ولا تعبر عن طلقة شجاعة، وإنما عن ذل وخضوع وخنوع واستسلام يتبعه ترك للجهاد في سبيل الله ولمواجهة العدو المحتل بالسلاح. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ * إِلا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
وإن جهود التنسيق من أجل مسار التسوية السياسية في فلسطين، والعودة إلى مربع دولة فلسطينية هزيلة على حدود 67، هو تضييع لحق فلسطين بين أروقة المفاوضات السياسية الرخيصة المتنكرة لتضحيات أهلنا في الأرض المباركة، وهو حل العملاء الخاضعين للمجتمع الدولي ولرأس الكفر أمريكا، وإن الدفع نحوه وإسكات الناس بالفتات من الكلام المنمق وببعض المساعدات التي ترسل إلى مطار العريش ثم يُترك لبايدن أن يقرر مصيرها، هو جزء من التضليل والخيانة والغدر والخذلان الذي يتعرض له أهل فلسطين طوال 75 عاما، وإلا فهل أعادت المساعدات والخطابات والشعارات أرض فلسطين؟! وهل "كامل فلسطين" تقف في قاموس حكامنا عند حدود 67؟! أم أن المطلوب هو خداع الأجيال الجديدة وامتصاص غضب الشعوب وتركها تهتف وتصرخ في الشوارع دون نصرة حقيقية تبرئ الذمة وتحقق الواجب الشرعي، في الوقت الذي يسابق فيه العدو الصهيوني الزمن من أجل حصد المزيد من الأرواح البريئة؟
والسؤال الأهم الآن: هل تخلت الجيوش عن دورها العاجل والملح في نصرة إخوانها المستضعفين حتى يتحدث الرئيس عن صرخة في واد سحيق تكفلها حرية التعبير أو عن جماهير عربية مسلحة وحرب طويلة الأمد؟ وهل تدرب الأنظمة جيوشها على القتال من أجل تسليح الجماهير العربية التي تسجنها الأنظمة في أقفاص الوطنية؟! أم أنه إعلان انسحاب من المعركة قبل خوضها وخذلان لمن استنجد بجيوش الأمة، والله سبحانه يقول: ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾؟
إن القضية اليوم ليست قضية غطاء أو غذاء أو دواء، ولا وقوفا عند الدعاء، كما ظلت تقنعنا الأنظمة وأبواقها طوال عقود، وإنما القضية هي تحريك للجيوش، إذ لا يفل الحديد إلا الحديد ولا يحسم المعركة مع كيان يهود إلا قتال الجنود تحت راية التوحيد. فماذا أنتم فاعلون يا قادة الجيوش، ويا أصحاب الرتب والنياشين؟! ماذا ستفعل أيها الجندي المخلص، يا من تريد تحرير فلسطين تحت راية الإسلام وتبتغي من الجهاد النصر أو الاستشهاد؟
إن لم تصنع منك مشاهد الدماء والأشلاء بركاناً يحرق الطغاة والمجرمين، وطوفاناً يقتلع الخوف الذي عشعش في قلبك لسنين، فكبّر على نفسك ثلاثاً، واعلم أن النصر آت ولو بعد حين، بك أو بغيرك، فهل تفوت على نفسك هذا الشرف؟! ومن لم تُحركه مشاهد الوجوه المهشمة، والجثث المنتشرة، والأشلاء المبعثرة، وآيات الجهاد القطعية، فما الذي يحركه بالله عليكم؟!