منذ سنوات تشير تصرّفات أمريكا على أرض الواقع إلى أنّها تضع الأسس لكيانات جديدة، مخالفة ومغايرة لكيانات سايكس بيكو واتّفاقية سان ريمو والقرارات التي اتّخذتها بعد ذلك كلّ من بريطانيا وفرنسا بإنشاء دول رسمت حدودها على الورق ومن ثمّ على الرمال، بحيث أنشأت لنا الخريطة التي ما زلنا نعرفها اليوم. والمشروع الأمريكي؛ مشروع تجزئة المنطقة تجزئة أخرى، ليس جديدا، بل هو قديم ولا يخفى على متابع. منذ عشرات السنين كان أبرز من اقترح هذا المشروع شيخ المحافظين الجدد المستشرق الشهير برنارد لويس المستشرق المتخصّص في التاريخ الإسلامي والفكر السياسي الإسلامي. فقد اقترح خريطة جديدة للمنطقة، رسمها على قياس الحدود الطائفية والمذهبية والعرقية فيها، لتزداد انقساما وضعفا، ما يدرأ الخطر عن كيان يهود، ويسهّل بسط النفوذ الأمريكي بشكل كامل عليها.
وحين شنّت أمريكا الحرب على أفغانستان، ثمّ على العراق، في عهد تلامذة برنارد لويس - وهم المحافظون الجدد - كان لديها مشروع لإنشاء شرق أوسط آخر غير الذي نعرفه. وبعد سقوط العراق بسهولة، أعلن وزير دفاع أمريكا آنذاك دونالد رامسفيلد أنّ الطريق باتت ممهّدة الآن إلى سوريا ودول أخرى. ولكنّ معظم العالم تكتّل ضدّ عصابة المحافظين الجدد؛ روسيا وأوروبا والصين ودول في الفلك ودول تابعة. ما أدّى إلى فشلهم وإخراجهم من السلطة حتّى قبل خروج جورج بوش الابن من البيت الأبيض. ثمّ عاد الديمقراطيون إلى البيت الأبيض بفوز أوباما ليلملموا أوساخ المحافظين الجدد ويرمّموا علاقاتهم الدولية التي تصدّعت، ما أخّر مشروع الشرق الأوسط الجديد إلى أجل غير مسمّى. وكان ملاحَظا أنّه كان حين يتولّى الجمهوريون حكم أمريكا يحاولون الاندفاع في هذا المشروع، وحين يتولاه الديمقراطيون يتراجع. وكانت الثورات التي قامت في المنطقة العربية منذ نهاية عام ٢٠١٠ عاملا أساسيا في إعاقة هذا المشروع مجدّدا، فقد أخذ أوباما على عاتقه مهمّة وأد هذه الثورات، ولا سيّما في سوريا.
وعندما وصل ترامب إلى البيت الأبيض سنة ٢٠١٦ حاول المضيّ قدما في تنفيذ ذلك المشروع من جديد، ولكنّه كان محاطا بعدد غير قليل من أركان الدولة العميقة الذين كانوا يعرقلون محاولاته، وسقط تحت ضربات الديمقراطيين في انتخابات سنة ٢٠١٩ الرئاسية، وعاد الديمقراطيون من جديد إلى السلطة بشخص بايدن. وقبل انتهاء ولاية بايدن ارتسم بوضوح قرار الديمقراطيين هذه المرّة المضيّ قدما في مخطّط إعادة صياغة المنطقة ووضع يد أمريكا عليها بشكل مباشر، بعد أن كانت قد أوكلتها عشرات السنين إلى الأوصياء الإقليميين، وفي مقدّمتهم إيران. فاتُّخذ القرار بالقضاء على حماس في غزّة، وحزب إيران في لبنان، وعلى الوجود الإيراني في سوريا، بل وأيضا على البرنامج النووي الإيراني.
وعليه فإنّ حجر الأساس لتنفيذ مشروع تقسيم المنطقة لم يوضع في تلك الحروب الأخيرة التي شنّتها أمريكا بيد كيان يهود منذ عملية طوفان الأقصى عام ٢٠٢٣، ومرورا بضرب حزب إيران عام ٢٠٢٤، ومن ثمّ ضرب إيران نفسها هذا العام، وإنّما بدأ التنفيذ على الأرض منذ غزوها للعراق سنة ٢٠٠٣، وذلك بتأجيج الفتنة الطائفية في العراق بين (السنّة والشيعة)، وبتكريس انقسام إقليم كردستان الذي نال الحكم الذاتي وتحوّل إلى شبه دولة حقيقية. ثمّ استكملت هذه الأسس في سوريا خلال سنيّ الثورة بتعزيز الأحقاد الطائفية والمذهبية فيها، وذلك برعايتها إنشاء حلف (الأقليّات) الذي تزعّمته إيران في مواجهة الغالبية الإسلامية السنّية، ورعايتها الحركة الانفصالية الكردية في شرق الفرات. أما لبنان فكان لها دور كبير في تقويض نظامه السياسي، وذلك حين منعت فرنسا من تفعيل قرارات مؤتمر باريس الذي تقرّر فيه منح لبنان مليارات الدولارات لإنعاش اقتصاده، ما أدّى إلى تسريع انهياره المالي والاقتصادي، ومن ثمّ إلى اندلاع ما يشبه الثورة الشعبية، وأوعزت حينها إلى سعد الحريري بالاستقالة من رئاسة الحكومة، وبالتالي إسقاط الحكومة التي كانت فعليا حكومة حزب إيران. كلّ هذه الإنجازات كانت تمهيدا لتقويض النظام الإقليمي، لإعادة صياغة المنطقة من جديد.
لقد كانت غاية أمريكا الأساسية من تفتيت المفتّت في المنطقة القضاء على الدول ذات القوّة النسبية العسكرية والديمغرافية والجغرافية. فقد كان فيها دولتان تتمتّعان بقوّة معتبرة في هذه الجوانب، هما العراق وسوريا. وبطبيعة الحال لم يكن الخطر ماثلا في النظامين البعثيين فيهما، وإنما في احتمال قيام نظام سياسي مخلص مستقل عن الإرادة الأجنبية في أي منهما يقرر القضاء على كيان يهود وعلى نفوذ أمريكا والغرب عموما في المنطقة.
من أهمّ أهداف أمريكا في المنطقة تكريس كيان يهود، بحيث تجعله كيانا طبيعيا. فهو كيان عنصري يقوم على الأسطورة الدينية، وحتّى يصبح كيانا طبيعيا في المنطقة لا بدّ أن تكون الكيانات كلّها من حوله على شاكلته، كيانات طائفية ومذهبية. فإلى جانبه يكون ثمّة كيان نصراني في لبنان، وثانٍ علوي في الساحل السوري، وثالث درزي في جنوب سوريا وقسم من لبنان، ورابع شيعي في جنوب العراق، وخامس كردي في شماله وشرق سوريا، وكيان عربي سني أو أكثر بين العراق وبلاد الشام. وهكذا تجعل هذه الصورة للمنطقة كيان يهود كيانا طبيعيا. وبعد ذلك قد تربط أمريكا هذه الكيانات جميعا في شكل من الأشكال الدستورية الاتّحادية الشكلية. وقد رشح من خلال كثير من التصريحات والقرارات تَصَوُّرٌ بأنّ هذه الكيانات ذات الطابع العنصري - بما فيها كيان يهود - قد يُصطنع لها رابطة وهمية تربط بينها، ألا وهي الإبراهيمية، من حيث إنّ شعوبها جميعا تنتسب إلى جدّ واحد، هو النبيّ إبراهيم ﷺ. ولم يكن عبثا أن سمّى ترامب اتفاقيات التطبيع التي رعاها في ولايته الأولى بين عدد من الدول العربية وكيان يهود باتّفاقيات أبراهام أو الاتّفاقيات الإبراهيمية، تمهيدا لمشروع قد يَخلُص إلى ما يسمّى مثلا "الاتّحاد الإبراهيمي".
ولكنّ الجانب الذي لا يقلّ أهمّية عن كلّ ما ذكرناه هو جانب الصراع الاستراتيجي الاقتصادي بين أمريكا والصين، وأيضا خطّة أمريكا للتضييق على روسيا وإخضاعها. وهذا ما سأخصّص له الجزء الثاني من هذه المقالة، إن شاء الله.
* عضو المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير