لقد كان تصريح المبعوث الأمريكي لسوريا ولبنان توم باراك في ١٢/٧/٢٠٢٥ حول احتمال عودة لبنان إلى بلاد الشام من جديد لافتا للنظر. وقد انضاف تصريحه هذا إلى منشور سابق له في حسابه في منصّة إكس في ٢٦/٥/٢٠٢٥، لفت الأنظار أيضا، حيث قال: "إنّ الغرب فرض قبل قرن من الزمان خرائط وانتدابات وحدودا مرسومة بالحبر، وإن اتّفاقية سايكس بيكو قسّمت سوريا والمنطقة لأهداف استعمارية لا من أجل السلام". وأضاف: "إنّ ذلك التقسيم كان خطأ ذا كلفة على أجيال بأكملها ولن يتكرّر مرّة أخرى، وإنّ زمن التدخّل الغربي انتهى، وإنّ المستقبل سيكون لحلول تنبع من داخل المنطقة وعبر الشراكات القائمة على الاحترام المتبادل، وإنّ مأساة سوريا وُلدت من الانقسام، وإنّ ميلادها الجديد يأتي عبر الكرامة والوحدة والاستثمار في شعبها".
وقد أثارت تصريحاته هذه قلق الطوائف، لكنها في الوقت ذاته دغدغت مشاعر كثير من مسلمي لبنان وسوريا. والحقيقة أنّ قلق الفريق الأوّل وتفاؤل الفريق الثاني معا في غير محلّهما. لأنّ تصريحات باراك المضلِّلة هذه لا تنطوي على توجّه أمريكي لتوحيد بلاد الشام وإنهاء انقسامها بحال من الأحوال. بل إنّ تصريحات باراك اللاحقة أتت لتبدّد هذه الأوهام. ففي ٢٤/٨/٢٠٢٥ قال: "إنّ البلاد بحاجة إلى دراسة بدائل عن الدولة شديدة المركزية"، وأضاف: "ما تحتاجه سوريا شيء يسمح للجميع بالحفاظ على وحدتهم وثقافتهم ولغتهم، دون أيّ تهديد من الإسلام السياسي". بل لقد كان أكثر وضوحا في دعوته إلى مناطق الحكم الذاتي في مقابلة مع وكالة الأناضول التركية جاء فيها: "في إطار بحثه عن نموذج إداري أكثر توازنا، أشار باراك إلى نظام "الملل" العثماني، معتبرا إيّاه مرجعا غنيّا بالتجارب المفيدة. فقد كان هذا النظام يمنح لكلّ طائفة دينية ضمن الإمبراطورية العثمانية قدرا من الحكم الذاتي، ما أتاح لها إدارة شؤونها التعليمية والدينية والقانونية في سياق تعدّدي". ومع تزييفه لنظام الملل العثماني الذي لم يكن قط نظام حكم ذاتي فإنّه اعتمد هذا التزوير ليمرّر فكرة مناطق الحكم الذاتي.
وإذا أخذنا بالحسبان أن باراك يراعي في تصريحاته عدم إحراج الحكم الجديد في دمشق وكذا أنقرة، فإنّه ينبغي تجاوز تصريحاته إلى ما يصدر عن الإدارة الأمريكية نفسها في هذا الشأن. فممّا يبرز من مواقف الإدارة الأمريكية بالتزامن مع تصريحات باراك تصريح المتحدّثة باسم الخارجية الأمريكية تامي بروس، التي قالت في ١٨/٧/٢٠٢٥: "إنّ الولايات المتّحدة لا تعارض الفيدرالية أو الحكم الذاتي... وندعو إلى بداية جديدة تقوم على الاستقرار، والبنية التحتية، والسلام". وعليه فإنّ تصريحات توم باراك حول "الشام" وظلم سايكس-بيكو لا تنفصل عن السياق العامّ للخطّة الأمريكية للمنطقة. وهذا ما يقودنا إلى الكلام عن مشروع "الشام الجديد".
مشروع الشام الجديد كان محورا لدراسة أعدّها البنك الدولي في آذار ٢٠١٤، بخريطة جغرافية اشتملت على سوريا ولبنان والأردنّ والأراضي الفلسطينية، بالإضافة إلى تركيا والعراق ومصر، في مساحة جغرافية إجمالية تصل حتّى 2.4 مليون كم2، وخزّان بشري يفوق ربع مليار إنسان. ويقول نصّ المشروع الذي أعدّه البنك الدولي: "إنّه يعتمد على طاقات المنطقة التجارية والاقتصادية والسياحية والخدماتية الكامنة، فضلا عن قواسم تاريخية وثقافية مشتركة تجمع شعوبها، والتي من شأنها أن تجعلها منطقة اقتصادية ناجحة". وهذه الجملة الأخيرة هي بيت القصيد، المنطقة الاقتصادية الناجحة، وهو ما عبّرت عنه المتحدّثة باسم الخارجية الأمريكية بقولها: "وندعو إلى بداية جديدة تقوم على الاستقرار، والبنية التحتية، والسلام".
ومشروع الشام الجديد هذا لم يبق حبرا على ورق منذ أن نشره البنك الدولي، وإنّما بدأ يتلمّس طريقه إلى أرض الواقع منذ عام ٢٠١٩ مع الدول الثلاث مصر والأردنّ والعراق، مع ارتسام بدء التغيّر في توازنات القوى الإقليمية التي بدأت تمرّ بمرحلة انتقالية. فعقدت الدول الثلاث اجتماعات عدّة على مستوى القمّة أو وزراء الخارجية، لوضع اللمسات الأخيرة لإطلاق فضاء جيوسياسي جديد على أساس التعاون فيما بينهم، لعلّ من أهمها القمّة الثلاثية التي عقدت في بغداد في ٢٤ آذار/مارس عام ٢٠١٩، والتي ضمّت رئيس الوزراء العراقي السابق عادل عبد المهدي، والرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي، وملك الأردنّ عبد الله الثاني. ثمّ استكمل الثلاثة اجتماعاتهم حول هذا الموضوع في القمّة التي عُقدت في أيلول/سبتمبر من العام نفسه في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامّة للأمم المتّحدة، ثمّ عُقدت القمّة الثالثة في عمّان في آب/أغسطس ٢٠٢٠، ثمّ الرابعة في بغداد في حزيران/يونيو ٢٠٢١، ثمّ الخامسة في كانون الأوّل/ديسمبر ٢٠٢٢. وكان الكاظمي أطلق تعبير الشام الجديد، لأوّل مرّة خلال زيارته للولايات المتّحدة في آب/أغسطس ٢٠٢١، في تصريح لصحيفة واشنطن بوست الأمريكية.
ولكنّ هذا المشروع لم يكن ليكتمل دون انضمام سوريا ولبنان ومن ثَمّ كيان يهود إليه. وكان اكتماله ينتظر حلّ مشكلة سوريا وخروجها هي ولبنان من تحت الوصاية الإيرانية التي كانت عقبة أمام تنفيذ المشروع، وهذا ما بات واقعا الآن بعد سقوط نظام بشار وطرد النفوذ الإيراني من سوريا ولبنان، وبالتالي آن الأوان بنظر أمريكا لتنفيذ هذا المشروع بالكامل.
إذن هذه هي خلفية تصريحات باراك، وعلى ضوئها يُفهم كلامه عن الشام وإزالة حدود سايكس بيكو. فالمشروع الأمريكي للمنطقة هو تفتيتها إلى مناطق حكم ذاتي، سواء تحت عنوان الفيدرالية أو اللامركزية الإدارية. ووارد جدّا عندها محو حدود الدول التي نعرفها اليوم والتي أنشأتها بريطانيا وفرنسا؛ العراق وسوريا ولبنان والأردن، وكذا الحدود التي تفصل الأراضي المحتلّة عن محيطها، لتحلّ محلّها حدود الدم، كما سمّاها الجنرال الأمريكي رالف بيترز في مقالته الشهيرة التي نشرها سنة ٢٠٠٦ في مجلّة القوّات المسلّحة الأمريكية، ومن ثَمّ إنشاء اتّحاد جديد يربط مجموعة كيانات الدم هذه، لتكون الصدارة فيها لكيان يهود.
إلّا أنّ إدارة ترامب ليست مستعجلة على إتمام هذا المشروع بالكامل في الوقت الراهن، إذ "إنّ تحقيق هذا الأمر يستغرق وقتا"، وفق تصريح توم باراك. وتبقى الأولوية الآن - كما صرّحت المتحدّثة باسم الخارجية الأمريكية - للاستقرار والاستثمار، حيث تكون المنطقة مزرعة أمريكية جديدة، ويكون أهلُها العمّالَ والزُرّاعَ فيها، فينالوا ما تتركه لهم أمريكا من فُتات الاستثمارات.
نسأل الله أن يخيّب سعيهم وأن يعين أهلها المؤمنين المخلصين على استعادة سلطانهم على أرضهم وتحرير المحتلّ منها، وعلى استعادة سيادة شريعتهم، وإحياء حضارتهم فيها وفي سائر بلاد المسلمين، وعلى قطع دابر المستعمر منها.