لقد بات واضحاً لكلّ مراقب مدرك للسياسات الدولية والإقليمية في منطقة شرق المتوسط أنّ ما يجري في سوريا إنّما يجري في سياق الخطّة الشاملة لأمريكا في المنطقة. هذه الخطّة كانت ثمّة عقبات أمامها ودأبت أمريكا على تذليلها منذ تداعيات عملية طوفان الأقصى وما أتى بعدها، من تدمير لغزّة ومحاولة القضاء على القوّة العسكرية لحماس، ومن تدمير القوّة العسكرية لحزب إيران اللبناني في لبنان وسوريا، ومن قصف للبرنامج النووي في إيران نفسها. ومِن قبل كانت أمريكا قد أشغلت روسيا بحرب أوكرانيا. وعليه فإنّ الخطّة التي وضعتها أمريكا للمنطقة تسير قُدماً. والملاحظ حالياً أنّ الدولة الأكثر طواعية لخطّة أمريكا هي سوريا، ففي غزّة ما زالت حماس تفاوض، وفي لبنان ما زال حزب إيران يناور، وإيران نفسها ما زالت تناور أيضاً بحثاً عن صفقه تحفظ لها ما أمكن من قوّتها ونفوذها في المنطقة. أمّا في سوريا فالأمور تجري بشكل انسيابي جدّا ضمن السياسة الأمريكية، حيث نرى تماهياً شبه تامّ بينها وبين سوريا، والشواهد على ذلك تتراكم يوماً بعد يوم، وآخرها مشاركة رئيسها في اجتماعات الأمم المتّحدة وما جرى على هامشها من لقاءات. وأهمّها اللقاء مجدّداً برئيس أمريكا، إضافة إلى المقابلة التي أجراها معه القائد السابق للقيادة الأمريكية الوسطى في الجيش الأمريكي ورئيس جهاز سي آي إيه سابقاً ديفيد بيتريوس، والتي اتّسمت بالتناغم والعلاقة الودّية. وكان قد سبقها عدد من المواقف التي تؤكّد التوافق بين الطرفين على قطع دابر "الإسلام السياسي" في سوريا. ففي شهر آب/أغسطس الفائت قال المبعوث الأمريكي الخاصّ إلى سوريا توم براك: "يجب إيجاد صيغة تضمن الحفاظ على وحدة وثقافة ولغة جميع المكوّنات بعيداً عن تهديد الإسلام السياسي". وقد لاقاه أحمد الشرع بكلام متناغم معه، ولكنه مستفزّ للمسلمين، حين صرّح في لقاء إعلامي موسّع بأنّ المبدأ الإسلامي فاشل! وحين قال أيضاً: "لا نستطيع استيراد أنظمة جاهزة أو استيراد أنظمة من التاريخ ونسخها وتطبيقها على سوريا"، وبالطبع لا يمكن تأويل هذا الكلام إلّا بأنّه يرفض إقامة أنظمة الإسلام في سوريا، إذ لا أحد يطالبه باعتماد النظام الروماني ولا اليوناني ولا الفارسي... وإنّما السؤال المتكرّر هو: هل ستعتمد سوريا الجديدة الشرع الإسلامي نظاما لها؟
وقد كان من قبل في خطابه بمناسبة إعلان ما يسمّى بالهوية البصرية لسوريا قد تحدّث عن هوية حضارية لسوريا وأهلها عمرها آلاف السنين، وهذا تصريح بأنّ حضارة أهل سوريا ليست جزءاً من الحضارة العامّة للأمّة الإسلامية والتي تبدأ مع بداية التاريخ الإسلامي، وإنّما هي هويّة وحضارة تاريخيتان خاصّتان بأهل سوريا تعودان إلى ما قبل الإسلام بآلاف السنين. والمفارقة العجيبة أنّه بينما كان نظام حزب البعث وآل أسد البائد يتاجر بالبُعد القومي العربي المبتذل، أتى الجولاني لينسب سوريا إلى قوقعة أصغر مصطنعة، هي قوقعة الهويّة الوطنية!
وفي هذا السياق أيضاً يأتي موقف نظام سوريا بقطع الطريق على جماعة "الإخوان المسلمون" من أن تفتتح لها فرعاً في سوريا، ولا يخفى أنّ هذا الموقف يأتي متماهياً مع قرار الأنظمة الإقليمية التابعة للقرار الأمريكي بحظر أيّ نشاط أو حتّى أيّ وجود للجماعة، بما في ذلك النظام الأردنّي الأعرق في احتواء جماعة الإخوان. وقد تولّى كبر هذا الموقف في سوريا السمسار الإعلامي للجولاني أحمد موفّق زيدان، كما تولّى من قبل تبرير حملة الاعتقالات التي شنّها الجولاني في إدلب على نشطاء حزب التحرير الذين ما زال معظمهم في سجون إدلب حتّى الآن.
ثمّ كانت الصدمة الأخيرة لأهل سوريا في السياق نفسه حين أصدر وزير التربية قراراً بتقليص عدد حصص الثقافة الإسلامية من القليل الذي هو أربع حصص أسبوعياً إلى الأقلّ الذي هو حصّتان أسبوعياً لصالح مادّتي الموسيقى والفنون! وفي السياق نفسه، وبعد انتشار فيديوهات لطلاب مدارس يردّدون هتافات إسلامية في سوريا -أبرزها هتاف "قائدنا للأبد سيّدنا محمّد" - أصدرت وزارة التربية والتعليم تعميماً يتضمّن منع ترديد أيّ شعار أو نشيد في المدارس العامّة والخاصّة في جميع المراحل التعليمية، وذلك إلى حين اعتماد النشيد الوطني للجمهورية العربية السورية! والشعار الرسمي الخاصّ بالوزارة، وفق الأصول الدستورية والقانونية المقرّرة، كما أوضحت في تعميم وجّهته إلى مديري التربية والتعليم في المحافظات أنّه يمنع منعاً باتّاً في جميع المدارس العامّة والخاصّة ترديد أيّ نشيد أو شعار من أيّ نوع كان، وذلك بناء على مداولات المجلس الأعلى للتربية.
كلّ هذه الإجراءات تشير بوضوح إلى أنّ نظام دمشق لا يكتفي باعتماد دستور وضعي وبالحكم بالكفر، وإنّما ينفّذ توجيهات أمريكا بمنع أيّ مظهر للإسلام في الدولة ودوائرها ومدارسها وجامعاتها وأجهزتها العسكرية والأمنية، بل وحتّى حظر أيّ نشاط سياسي يتّخذ من العقيدة الإسلامية أساساً وأنظمة الإسلام منهجاً له.
وكانت وزارة الدفاع السورية قد أصدرت قراراً تنظيمياً جديداً أواخر آب/أغسطس الفائت يقضي بمنع استخدام أو تثبيت أيّ شعارات أو رايات غير معتمدة رسمياً على الزيّ العسكري، بما في ذلك الرموز ذات الدلالات الدينية مع الالتزام حصرياً بالشعار الرسمي المعتمد من الوزارة، وذلك بعد أن كان كثير من العسكريين يثبتون شهادتي أن "لا إله إلّا الله وأنّ محمداً رسول الله" على أزيائهم العسكرية.
والسؤال بعد ذلك كلّه: هل سيقبل أهل سوريا بالعلمانية وينسون المشروع الإسلامي واستئناف الحياة الإسلامية وينصرفون عن حضارتهم وعن نظامهم الإسلامي؟
الجواب هو أنّ الزمان لن يطول قبل أن يكتشف أهل سوريا المؤامرة التي تهدف إلى فرض العلمانية عليهم. بل قد بدأوا يشعرون بالصدمة وهم يرون الاعتداء على أدنى مظاهر الإسلام في تعليم أولادهم. فليست الحالة الآن سوى حالة استثنائية ومرحلة عبور، ستكتشف بعدها النخبة الواعية، ولا سيّما النخبة التي تلتزم الإسلام وتستند إلى عقيدته، أنّ المشروع القائم في سوريا الآن هو مشروع علماني، وأنّه يشكّل جزءاً من الخطّة الأمريكية للمنطقة، وحينئذ سيتصاعد النضال والكفاح من أجل استئناف الحياة الإسلامية، ومَن أحرى من أهل الشام عقر دار المؤمنين بأن يكونوا في طليعة هذا المشروع؟
* عضو المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير