الحج من أعظم الفروض، وهو ركن من أركان الإسلام لقوله تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾، ولقول النبي ﷺ: «بُنِيَ الإسْلَامُ علَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللهُ وأنَّ مُحَمَّداً رَسولُ اللهِ، وإقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والحَجِّ، وصَوْمِ رَمَضَانَ» متفق عليه، وروى الإمام البخاري في صحيحه «أنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ سُئِلَ: أيُّ العَمَلِ أفْضَلُ؟ فَقالَ: إيمَانٌ باللهِ ورَسولِهِ. قيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قالَ: الجِهَادُ في سَبيلِ اللهِ. قيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ»، وقال ﷺ: «والحَجُّ المَبْرُورُ ليسَ له جَزَاءٌ إلَّا الجَنَّة». متفق عليه، وبر الحج ليس أداء المناسك فحسب، ثم العودة إلى الحالة السابقة من ارتكاب المعاصي وفعل المنكرات، بل أن يصبح المسلم منقاداً لأمر الله في كل أمر من أمور حياته.
وللحج دلالات عظيمة، من أبرزها: طاعة الله سبحانه وتعالى والتزام أمره، ووحدة الأمة.
نجد التزام أمر الله بارزاً في الأمور التالية:
أولاً: حب مكة البلد الحرام، فسماؤها وأرضها لا تختلف عن أي سماء أو أي أرض ولكننا نحبها أكثر من أي بلد آخر حتى لو كان موطننا ومسقط رأسنا؛ ذلك لأن الله سبحانه وتعالى أحبها وزادها تشريفاً وتعظيماً، قال ﷺ وهو خارج منها مهاجراً: «وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكِ أَحَبُّ بِلَادِ اللهِ إِلَى اللهِ وَأَكْرَمُهُ عَلَى اللهِ» الترمذي.
ثانياً: شعار الحجيج الذي يردده الصغير والكبير (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك)، تعني أننا نلبي أمر الله في كل شأن من شؤون حياتنا أثناء الحج وقبله وبعده، ومن أبسط الأمور كقضاء الحاجة إلى الحكم بما أنزل الله، وفي جميع العلاقات من العلاقات الأسرية إلى العلاقات الدولية، فلا ينبغي أن يؤدي الحاج فريضة الحج ثم يعود ليأكل الربا ويفعل المنكرات ويسمح لابنته وزوجه أن تخرج كاسية عارية، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يتصور الحكام أمام الفضائيات وهم يؤدون مناسك الحج ثم يعودون للحكم بأنظمة الكفر من ديمقراطية وعلمانية، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ﴾، ولا يجوز رجم الشيطان هناك ثم يعود المسلمون لموالاة أعداء الله والركون إلى الظالمين، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ﴾، وقال سبحانه: ﴿وَلَا تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ﴾.
ثالثاً: تقبيل الحجر الأسود، حيث قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ"، وهذا القول يدلل على الانقياد لأمر الله سبحانه والسير على خطا رسوله ﷺ، لقوله تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً﴾، وقوله سبحانه: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
رابعاً: ترك إبراهيم لزوجه وابنه حتى تعلقت زوجه بثيابه وقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الواد الذي ليس فيه ضرع ولا زرع ولا أنيس ولا زاد ولا ماء؟ وقالت له ذلك مراراً وهو لا يلتفت إليها فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم، قالت: إذا لن يضيعنا، ثم رجعت.
بمقاييس العقل هي تسير إلى موت محقق، ولكنها رضيت لأنه أمر الله، فطاعة الله والانقياد لأمره واجب حتى لو أدى ذلك إلى قطع الأرزاق والأعناق، وهذا يشبه تماما موقف أم موسى عليه السلام واستجابتها لأمر الله بإلقاء رضيعها في اليم.
على ضوء ما سبق يجب أن يكون شعارنا في حياتنا قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
أما دلالة الحج على وحدة الأمة فنجده في:
أولاً: الحجاج يلبسون لباساً واحداً ويطوفون طوافاً واحداً ويقفون موقفاً واحداً، قوميات وأعراق مختلفة يتجمعون تحت مظلة واحدة ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، ولكن مع الأسف نجد المسلمين اليوم مفرقين أيدي سبأ يوالون أعداء الله الذين دأبوا على تفريق الأمة وتشتيت شملها، قال تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾، روي أن اليهودي شاس بن قيس وكان شديد العداوة للإسلام والمسلمين، مر يوماً على نفر من الأنصار في مجلس يتحدثون في حالة من الود والتراحم، فغاظه ذلك، وأمر شاباً من اليهود أن يجلس إليهم ويذكرَهم بيوم بعاث وينشدهم ما قيل فيه من الأشعار، وكان يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج، ففعل فتشاجر القوم وتنازعوا وقالوا: السلاح السلاح، فبلغ النبيَ ﷺ فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه حتى جاءهم فقال: «يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، أبدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وَأنَا بَيْنَ أظْهُرِكم بَعْدَ إذْ أكْرَمَكُمُ اللهُ بالإسْلَامِ؟!»، فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله ﷺ، وقالوا: فما كان يوم أقبح أولاً وأحسن آخراً من ذلك اليوم، وفي هذه الحادثة نزل قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ إلى قوله: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا﴾.
ثانياً: دماء المسلمين حرام: روى البخاري عن النبي ﷺ أنه بعد أن سأل المسلمين يوم النحر عن اليوم والشهر والبلد قال لهم: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا»، فلا يجوز بحال من الأحوال أن نرى دماء المسلمين تسفك ولا نحرك ساكنا بسبب التقسيمات الوطنية وعلى أجندة الدول الكافرة في بلادنا، قال النبي ﷺ في خطبته في حجة الوداع: «أَلَا إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ» رواه مسلم.
ثالثاً: مفهوم الأمة الواحدة: زرع النبي ﷺ في نفوس المسلمين أنهم أمة واحدة من دون الناس، فعادى النبي ﷺ أقرب الناس إليه لأنه كان كافراً وهو عمه أبو لهب، قال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾، وتآخى النبي ﷺ مع سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي، حتى قال النبي ﷺ: «سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ» رواه الحاكم.
فالمسلمون أمة واحدة يجب أن يجسد ذلك عملياً في دولة واحدة بحاكم واحد تحت راية واحدة ،كما جسدته مناسك الحج استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ وقال: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾، لتعود أمتنا إلى مكانتها الطبيعية خير أمة أخرجت للناس.
بقلم: د. نبيل الحلبي – غزة / الأرض المباركة (فلسطين)