أقدمت أمريكا في عهد الرئيس نيكسون بتاريخ 15/8/1971 على إلغاء اتفاقية بريتون وودز الخاصة بتثبيت سعر الذهب بقيمة 35 دولاراً لكل أونصة من الذهب. وكان الدافع الرئيس لذلك القرار التاريخي هو الزيادة الهائلة بكميات الدولار الصادرة عن البنك الفيدرالي، خاصة تلك الأموال التي خصصتها أمريكا لإنقاذ أوروبا والتي عرفت بمشروع مارشال. وقد تجمع لدى أوروبا ما يقدر بـ10-40 مليار دولار مع حلول سنة 1971، ما قيمته بالذهب حسب اتفاقية بريتون وودز 11.2-40.8 طناً من الذهب. وهو يفوق ما لدى أمريكا من احتياطي ذهب حسب إحصائيات عام 1971 والتي كانت تعادل 10 آلاف طن. فلم يكن أمام أمريكا أي خيار إلا إلغاء الالتزام بقاعدة بريتون وودز التي تسمح للبنوك المركزية العالمية أن تستبدل بما لديها من دولارات ذهبا. فبالرغم من معارضة أوروبا خاصة فرنسا لأمريكا حين ألغت العمل بالاتفاقية، إلا أن أمريكا استمرت في قرارها، وأرغمت أوروبا على السير في هذا الطريق، خاصة عندما تمكنت من إقناع (أو إجبار) منظمة أوبك وعلى رأسها السعودية أن تستبدل بقاعدة الذهب مقابل الدولار، قاعدة البترول مقابل الدولار بما عرف بقاعدة البترو-دولار.
وحين النظر إلى العلاقة بين الدولار والبترول والعلاقة بين الدولار والذهب نجد أن هناك معضلة كبيرة أمام النظام النقدي الذي تسيطر عليه أمريكا. فأمريكا بعد انفلات الدولار من قيد الذهب، ومن ثم من قيد النمو الاقتصادي الذي عمل ريغان على فكه خلال دورة حكمه 1980-1988، سمحت بإصدار كميات هائلة من الدولارات تفوق ما لديها من ذهب أو منتجات متداولة في الأسواق المحلية والعالمية.
وقد وصلت الدولارات في السوق العالمي إلى كميات كبيرة جدا. فالنقد المتوفر على شكل نقد حقيقي (كاش)، والذي يعرف بقيمة (M0) يصل إلى 8.3 تريليون دولار، وكمية الدولارات المتداولة من خلال الشيكات البنكية (M1) تساوي 56.7 تريليون دولار، وإذا أضيف لها حسابات التوفير الخاص بالبنوك (M3) وقيمتها 57 تريليون، تصبح كمية الدولارات على المستوى العالمي 123 تريليون دولار. ومع ذلك فإن مجموعة EBC المالية العالمية تقدر قيمة الدولارات على مستوى العالم بـ471 تريليون دولار. ما يعني أن كمية المال المقدر بالدولار يمكن أن يستنزف كل ما يتوفر من ذهب في العالم سواء تم إنتاجه أم ليس بعد. حيث إن كمية الذهب التي اكتشفت على مستوى العالم حسب مؤسسة الاستقراء الجيولوجية الأمريكية تقدر بـ244 ألف طن، يضاف إليها 50 ألف طن يقدر وجوده في باطن الأرض. فإذا تم اعتبار كمية الذهب المكتشف مع الذهب المتوقع اكتشافه لاحقا بقيمة 300 ألف طن، فإن ذلك يعني أن ما يتوفر من دولارات والتي أصدرها البنك الفيدرالي أو التي يمكن أن يستعملها يكفي لشراء كل ما في العالم من ذهب حسب السعر الحالي بأقل من 7% من كمية الدولارات المتوفرة في العالم.
صحيح أن الذهب ليس هو القاعدة التي تحكم النقد، وأن تحويل الدولارات إلى ذهب ليس مفروضا بشكل قسري على الدول، ولكن الشيء الوحيد الذي ضمنته أمريكا بعد إلغائها اتفاقية بريتون وودز هو ثبات سعر التداول بين الذهب والدولار. وهنا تكمن خطورة تكدس الدولارات بشكل هائل والتي تكفي لشراء كل الذهب العالمي 15 مرة.
ومن ناحية أخرى فإن ما اصطلح عليه من التضخم فإنه يعني زيادة ملحوظة لكمية النقد المتداول أو القابل للتداول مقابل ما هو موجود من سلع يمكن شراؤها بالنقد المتوفر. صحيح أن التضخم يمكن أن يقاس بما هو موجود من مواد مستهلكة كالغذاء، أو مستعملة كالآلات أو استراتيجية كالسلاح، ولكن يبقى الذهب هو أهم مؤشر على التضخم، خاصة إذا أصبح عليه إقبال كبير للاستثمار أو التخزين. وإذا نظرنا إلى كمية وقيمة الموجودات التي يستعملها الناس على مستوى العالم موزعة على المواد الغذائية والأدوية، والحربية، والصناعات الفضائية والصناعات التكميلية، ومعها الذهب فقد بلغت عام 2023 حوالي 40 تريليون، وعام 2024 بلغت 64 تريليون دولار. وإذا قارنا هذه القيمة بالنقد المتداول فقط، والذي يبلغ 160 تريليون دولار، أدركنا مدى خطورة الوضع المالي على المستوى العالمي. ويجب هنا ملاحظة الارتفاع الكبير بين قيمة البضائع المتداولة خلال عامي 2023 و2024 والذي بلغ 4 تريليون دولار. وهذه الزيادة الفظيعة هي زيادة أسعار البضائع والمواد المستهلكة والاستراتيجية، وليس زيادة في الاستهلاك بالضرورة.
وما يتداول اليوم ويلاحظ بشكل بارز والذي يتعلق بأسعار الذهب، إنما ذلك لأن الذهب هو المادة التي يمكن زيادة سعرها بشكل كبير دون خلق فوضى عالمية. فبدل رفع أسعار الربا بشكل كبير لكبح التضخم، وزيادة ملحوظة في المواد الاستهلاكية، تتوجه الأنظار إلى الذهب كملاذ جيد حيث إن ارتفاع أسعاره لا تؤثر على حياة الناس، بل إن ارتفاع أسعاره ينظر له على أنه فرصة استثمار، وليس مظهرا من مظاهر التضخم الذي يعاني منه أكثر سكان العالم.
والحاصل أن القضية الأساسية التي تتمحور حولها قضايا ارتفاع الأسعار سواء في الذهب أو غيره من البضائع، هو نتيجة طبيعية للقضية الرئيسية والمتمثلة في عملية إصدار النقود. فالعالم عاش قرونا طويلة يتعامل ماليا بنقد واحد هو الذهب أو ما ينوب عنه من نقد متداول. وهذا النظام لا يمكن أن يعاني من التضخم مطلقا. بل على العكس فإن زيادة الإنتاج تؤدي دائما إلى خفض الأسعار بشكل طبيعي. على عكس النظام الرأسمالي الذي فرضت أمريكا الجزء المالي منه.
ويبقى السؤال: هل من الممكن العودة إلى نظام الذهب بحيث يصبح الذهب هو النقد المتداول عالميا ويجري تقدير أسعار كافة الجهود والأموال بالذهب والفضة مثلا؟ إن الجواب لا يتعلق بنظام مالي فحسب، بل بالنظام الاقتصادي ككل، وبالنظام السياسي الذي يستطيع أن يتخذ قرارات اقتصادية بغض النظر عن مواقف الدول الأخرى. وهذا أمر الحديث به أسهل من العمل بمقتضاه، فهو قرار يستفز الدولة الأولى في العالم أمريكا، التي تعتبر فصل الذهب عن أي قاعدة نقدية هو أحد الأسس التي ترتكز عليها في تحقيق سيادة كبيرة على العالم. وقد رأينا كيف أن أوروبا وهي الدول الأقدر على مواجهة أمريكا، على الأقل قبل 75 عاما حين ألغت قاعدة الذهب، لم تتمكن من الوقوف أمام أمريكا. وكذلك الاتحاد السوفيتي لم يجد أي وسيلة لتحدي أمريكا في قرارها ذاك، واكتفى بشراء العملات الأجنبية بذهب حقيقي من أجل شراء بضائع من دول العالم المختلفة، وإن كان قد قلص استيراده للبضائع العالمية بشكل كبير.
وحتى اليوم، فإن نشوء منظمات مثل بريكس وشنغهاي، تتحدث بحذر كبير عن النظام النقدي العالمي. وجل ما يتحدثون به هو التجارة البينية بين أعضاء هذه المنظمات، باستخدام نقدهم الخاص. ولا ترقى استراتيجيتهم إلى إصدار نقد يعتمد على الذهب مطلقا.
لقد تمكنت أمريكا من جعل النقد وسيطرة الدولار، قضية استراتيجية في تعاملها مع العالم، وأي خروج عنها قد يؤدي إلى عواقب كبيرة جدا، والدول الأقوى في العالم تدرك ذلك تماما، وتعمل جاهدة لعدم استفزازها.
من هنا كان تحدي نظام النقد العالمي، لا بد أن يكون جزءا من تحدي النظام العالمي برمته سواء على الناحية الفكرية المبدئية، أو الناحية الاقتصادية ومنها المالية، أو السياسية. وهذا لا يتوفر أبدا إلا في الخلافة، التي تملك النظام السياسي والاقتصادي، القائم على فكر مستنير، وتملك السيطرة على أهم الموارد الطبيعية كالغاز والنفط والمعادن، كما تملك السيطرة على المعابر المائية المهمة في العالم. هذا بالإضافة إلى طاقة بشرية هائلة. فدولة الخلافة القائمة قريبا بإذن الله هي الوحيدة التي تستطيع أن تقدم للعالم أجمع نظاما ماليا مصحوبا بنظام اقتصادي وسياسي وبشري قائم على فكر مبدئي لا ينبني على المصلحة مطلقا سواء الآنية أو المستقبلية.