حين نتحدّث عن السيادة، يتبادر إلى الذهن الحدود والخرائط والجيوش. لكن في زمن الشبكات الإلكترونية والتحول الرقمي، ظهر نوعٌ آخر من السيادة يُعرف بالسيادة الرقمية. وهي القدرة على أن تقرّر الدول بلا وصاية من أي طرف كيف تبنى البنية التحتية الرقمية؟ أين تُخزَّن بياناتها؟ أي معايير تعتمد؟ وكيف تحمي الاقتصاد والرعايا من هجمات لا تُرى بالعين؟ إن من يملك هذه القدرة لا يكتفي بحماية فضائه الإلكتروني؛ بل يكتسب نفوذاً سياسياً واقتصادياً يتجاوز الجغرافيا.
تبدأ حكاية السيادة الرقمية (السيبرانية) من أمور تبدو للوهلة الأولى تقنية جافة: كابلات بحرية تمتدّ آلاف الكيلومترات، ومراكز بيانات تُبردها أنهار، ونظم أسماء المجال السيبراني (DNS) والتي تربط اسم الموقع الإلكتروني بعنوانه الرقمي. وفوق هذه الأرضية تعمل السحابة الرقمية، والمنصّات العملاقة، ومتاجر التطبيقات، وأنظمة الذكاء الاصطناعي. وبين كل طبقة وأخرى هناك نقاطُ خنقٍ حرِجة تمثل عنق الزجاجة، وأدوات تصميم الرقائق الإلكترونية والتي من دونها لا تُصمَّم شرائح، ومعدات تصنيع متقدّمة لا يبيعها سوى قلّة، ومعايير تقنية من يكتبها يربح السوق لاحقاً. هنا بالضبط تتجسّد السيادة الرقمية: أن تكون صانعاً للقاعدة لا مجرد مستخدمٍ لها.
في هذا المسرح، تتقدّم ثلاث كتل كبرى، لكلٍّ منها أسلوبه وإمكاناته:
الولايات المتحدة التي تتصرّف كمهندسٍ للنظام الرقمي العالمي. تمتلك أوزاناً ثقيلة في السحابة الإلكترونية والمنصات والبرمجيات والذكاء الاصطناعي، وتحتفظ بأدوات تصميم الشرائح الأكثر انتشاراً. بينما قوّتها لا تقف عند التقنية بل تمتدّ إلى القانون (قدرة الوصول إلى بيانات شركاتها حتى خارج البلاد بمعاهدات وأطر قانونية)، وإلى التحالفات التي تدفع دولاً كثيرة لاعتماد معاييرها. وفي الأمن، تمتلك قدرات استخبارية وشراكات عميقة تمنحها عيناً مفتوحة على الفضاء السيبراني.
الصين تبني سرديتها الخاصة: سوقٌ داخلي عملاق مصحوب بتصنيع واسع، و"طريق حرير رقمي" يمتدّ إلى الخارج، وسعيٌ دؤوب لاستبدال الواردات في الشرائح والذكاء الاصطناعي والمدفوعات. وما تزال الصين تواجه فجوات وتحديات في معدات تصنيع الرقائق المتقدّمة، ولكنها تعمل على سد الثغرات باستثمارٍ سياديّ وضخّ ماليّ كبير وسلسلة توريد تتكامل سنة بعد أخرى.
الاتحاد الأوروبي يملك سلاحاً مختلفا يتمثل بالتنظيم والمعايير الخاصة بحماية البيانات وضبط المنصّات، والأمن السيبراني والهوية الرقمية، حيث يكتب الأوروبيون في هذه المجالات قواعد اللعب. ولكن التحدّي الأكبر لدى الأوروبيين ليس في القانون بل في الصناعة، وكيف تتحوّل القوة التنظيمية لديهم إلى منصّاتٍ ومنتجات عالمية تُزاحم الكبار؟
هناك أيضاً لاعبون صاعدون في هذا المجال كالهند التي تقدّم تجربة الدولة من خلال منصّة رقمية تتمثل في هوية رقمية وخدمات حكومية رقمية تلامس مئات الملايين، وطموح متزايد في الرقائق والبرمجيات المفتوحة. كما أن هناك كوريا وتايوان واليابان، التي تمسك بمفاصل دقيقة في سلاسل التوريد من المواد إلى المعدات. وهناك روسيا، وبالرغم من القيود الاقتصادية، فإنها تملك قدرات هجومية سيبرانية تُحسب في موازين الردع.
أما الأمن السيبراني تحديداً فتكمن أهميته لأن الاقتصاد الحديث يعتمد على الاستمرارية، والتي بدورها تعتمد على رقمنة الاقتصاد في جميع مراحله من الإنتاج حتى الاستهلاك. وأي هجوم سيبراني على شبكة كهرباء، أو مصرفٍ كبير، أو مزوّد اتصالات قد يجمّد مدينة بأكملها. وقد حدث أن أمريكا تعرضت لهجوم سيبراني من قبل روسيا وصل إلى شبكات دفاعية بما فيها أدوات التحكم بالسلاح النووي، والتي تمت السيطرة عليها من خلال لقاء تم بين الرئيس بوتين ورئيس أمريكا السابق بايدن. وهنا تكمن معادلة السيادة، والتي تتمثل في دولة تُمسك بدفاعاتٍ متعدّدة الطبقات، تراقب سلسلة إمدادها، وتغلق ثغراتها سريعاً، وتبني ثقةً لدى رعاياها وأسواق المال. والثقة رأسمال سياسي واقتصادي لا يقلّ قيمةً عن النفط والغاز.
من يمتلك القوة الكبرى في مجال السيادة الرقمية اليوم؟
- تقنياً تميل الكفّة للولايات المتحدة في السحابة والمنصات والبرمجيات والذكاء الاصطناعي وأدوات تصميم الشرائح. أما الصين فلديها زخمٌ تصنيعيّ داخلي هائل وتقدّم سريع في التطبيقات، مع سعيٍ لتجاوز عتبة المعدات المتقدّمة. وقوة أوروبا تكمن في المعايير وبعض حلقات المعدات والابتكار الصناعي، لكنها تبحث عن منصّاتٍ تضاهي عمالقة العالم.
- مالياً تحتفظ أمريكا بمركز ثقل رأس المال المغامر وأسواق تمويل الابتكار، بينما تبني الصين قوّتها عبر تمويلٍ سياديّ كثيف، وتوازن أوروبا ذلك بسياساتٍ صناعية موجّهة.
- سياسياً تستند أمريكا إلى شبكة تحالفاتٍ واسعة تؤازر معاييرها، وتتمدّد الصين عبر مشاريع بنية رقمية وتمويل خارجي، فيما يمارس الاتحاد الأوروبي قوةً معيارية تغيّر سلوك الشركات العالمية داخل سوقه.
بالنسبة للدول المتوسطة، فهذه الخريطة لا تعني الاستسلام. فالسيادة الرقمية ليست "إما كلّها أو لا شيء"، بل هي عملية إنشائية تُبنى طبقةً طبقة. يمكن لدولةٍ أن تختار ما تريد امتلاكه محلياً كهوية رقمية وطنية، أو سحابة سيادية لقطاعاتٍ حسّاسة، ومراكز بيانات داخل الحدود، وما يمكن شراؤه خارجياً مما يتعذر آنيا بناؤه. كما يمكنها تنويع مزوّدي الرقائق والسحابة والكوابل، وسنّ قوانين متوازنة لحماية البيانات ونقلها عبر الحدود، وبناء رأسمال بشري يحمي الفضاء السيبراني ويطوّر الذكاء الاصطناعي. والأهم هو حضورٌ نشط في هيئات وضع المعايير؛ فمن يكتب المعيار اليوم، يبيع المنتج غداً.
وهناك دول في العالم كتلك الموجودة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية والبلاد الإسلامية، لا تزال في عداد الدول المستهلكة لمنتجات أمريكا وأوروبا والصين واليابان وكوريا، مع شيء محدود من إنتاج البرمجيات والتي تعتمد في عملها على الدول المالكة للصناعات في منتجات وأجهزة وأنظمة التشغيل والتخزين.
ومع أن الحديث هنا يبدو تقنياً، إلا أنّه في جوهره سؤال سيادة: من يملك قرار البيانات؟ من يتحكّم بالمنصّات؟ من يضمن أمنه بلا ابتزازٍ تقني؟ في عالمٍ تُدار فيه التجارة والسياسة والخدمات عبر الشبكات، تصبح الإجابة على هذه الأسئلة معياراً لمكانة الدول ونفوذها. إنّ السيادة الرقمية ليست شعاراً ولا رفاهية؛ إنّها خطة دولة: استثماراتٌ محسوبة، تحالفاتٌ ذكية، تشريعاتٌ واضحة، وبناء قدراتٍ لا تنهار عند أول هجمة.
من هنا ينبغي التفكير جديا في هذا المجال الاستراتيجي خاصة حين يتعلق الأمر بظهور دولة الخلافة قريبا إن شاء الله، والتي يتوجب عليها من الناحية الشرعية العقدية، ومن الناحية السياسية أن تكون ذات سيادة مطلقة في جميع النواحي. فهل تملك دولة الخلافة عند قيامها المقومات اللازمة لامتلاك السيادة الرقمية كجزء رئيس من السيادة المطلقة والتي أمر الله بها؟ والله تعالى يقول: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾.
رأيك في الموضوع