لا شك أن الله عز وجل قد بين لنا طريقة العيش الصحيحة، فقال سبحانه: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾، وأوجب على المسلمين التحاكم لشرعته ومنهاجه، قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾، وجعل سعادة المسلمين مرتبطة بمدى تمسكهم بدينهم وأنظمته وأحكامه، قال تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً﴾. فَالْحَذَرَ كُلَّ الحَذَرِ من أَنْ نَعْتَرِضَ عَلَى حُكْمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ أَنْ نُعْرِضَ عَنْهُ، فالله سبحانه وتعالى يحذرّنا نفسه، بقوله: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ * قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
وإن جعل العقل مشرّعاً من دون الله إعراضٌ عن شريعته سبحانه ومزاحمةٌ له في ملكه. فأي دستور يتم وضعه يجب أن يكون منبثقاً من صميم عقيدة الأمة وممثلاً لها ومعبّراً عن تطلعاتها، لنكون بحق شاكرين لنعم الله ومعيته التي حملتنا إلى دمشق منتصرين، ولا يجوز أن يكون مبنياً على أساس وجهة نظر الغرب القائمة على فصل الدين عن الحياة والدولة والمجتمع وعلمانية الدولة التي لطالما أكد عليها الغرب الكافر في مؤتمراته ولقاءاته واجتماعاته الخاصة بسوريا.
فالدستور هو القانون الذي يحدد شكل الدولة وأجهزتها ونظام الحكم فيها، وصلاحية واختصاص كل جهاز، وهذا الدستور إما أن يكون مصدره الوحي، أي من خالق الكون والإنسان والحياة، اللطيف بخلقه والخبير بهم، العليم بما يصلح حياتهم وما يفسدها، وإما أن يكون مصدره العقل البشري. ولا شك أن الدساتير التي يكون مصدرها العقل البشري هي دساتير مضطربة تؤدي بأهلها إلى الشقاء وضنك العيش، لأن العقل البشري عرضة للتناقض والاختلاف والتفاوت والتأثر بالبيئة، ما يُنتج دساتيرَ تحملُ صفاته، وهذا ما يفسر اختلاف الدساتير بين مجتمع وآخر، وتغييرها أو ترقيعها بين الفينة والأخرى. ومن مكر الغرب بنا دأبه الشديد لفرض دستور وضعيّ مفصّل على مقاسه لتكريس هيمنته وسيطرته، بعد أن سلّط على رقابنا على مدار عقود حكاماً عملاء يحرسون له مصالحه ويمنعون نهضتنا حتى نبقى أذلة تابعين.
لقد أوجب الإسلام علينا أن تكون عقيدته هي أساس الدولة، وهي أساس الدستورِ والقوانين، أي المصدر الوحيد للتشريع، بحيث لا يكون معها مصادر تشريع أخرى كما في الدساتير الوضعية التي يقول بعضها بأن الإسلام مصدر رئيسي أو أساسي للتشريع بينما هي في حقيقتها تقتبس تشريعات علمانية غريبة عن ديننا وأمتنا، يصدرها لنا الغرب ويلزمنا بها ليرضى ونشقى. فحتى يكون الحكم إسلامياً والدولة كذلك لا بد من أن تتفرد العقيدة الإسلامية بأن تكون وحدها مصدر التشريع، بذلك فقط نستطيع القول إن الدستور إسلامي، وأما غير ذلك فهو سير في ركاب الدول وما تقرره لنا من تشريعات وما تفرضه علينا من إملاءات، ولطالما قلنا إن رضا الله الذي أمرنا بتطبيق الإسلام ورضا أمريكا التي تطالب بمحاربة الإسلام ضدان لا يلتقيان.
وإن تشريعات الإسلام ودستوره وأحكامه لا يمكن جعلها موضع التطبيق إلا عبر دولة ونظام، وإن نظام الحكم في الإسلام نظامٌ فريد متميز، يعبر عن هويتنا وحضارتنا وعزة إسلامنا، العزة في تطبيقه بشكل جذري انقلابي شامل في الحكم والسياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية والمعاملات والمعالجات، والذلة والشقاء في إقصائه وتغريبه. لا يجوز أن يكون نظاماً جمهورياً يكون التشريع فيه للبشر من دون الله، ولا يجوز أن يكون ملكياً أو إمبراطوريا أو غير ذلك، لأنها أنظمة وضعية نهبت البلاد وأشقت العباد ونشرت في الأرض الفساد، فلا أمن للمسلمين ولا عزة ولا هناءة عيش إلا عبر نظام حكم يرضي الله ورسوله، به نعز ونرقى وبغيره نذل ونخزى، إذ لا يليق بنا أي نظامٍ علماني يُطرح أو يُفرض علينا يُسخِط اللهَ ويشقي العباد، حتى ولو كان مُجمَّلَ الوجه مُزكّىً من القنوات الفضائية المسيّسة، وحتى لو تمسّح بذكر الإسلام ما دام مضمونه هو الديمقراطية والحكم بغير ما أنزل الله. قال تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾. فعندما حكمَنا الإسلامُ وحكّمناه في كل شؤون حياتنا، وأحسنّا تطبيقه، كنا سادة الدنيا بلا منازع، وعندما أسأنا تطبيقه وتخلينا عن أحكامه وقوانينه وتشريعاته أصبحنا غثاء كغثاء السيل، تداعت علينا الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وبتنا مستضعفين، ينهب الأعداء خيراتنا ويستعبدوننا ويتحكمون في طريقة عيشنا وشكل حياتنا ورسم مستقبلنا عبر دساتير وضعية سقيمة ليس من ورائها إلا الذل والمهانة وشظف العيش.
لقد قدم أهل الشام على مدار أربعة عشر عاماً التضحيات الجسام، فداءً لدينهم وأمتهم وأرضهم وعرضهم. وإنه لا يكافئ هذه التضحيات التي بذلت والدماء الزكية التي أريقت إلا تطبيق الإسلام وتشريعاته في كافة نواحي الحياة، عبر دولة عز وقوة ومنعة، تحمل لواء الإسلام ويقودها رجال الإسلام. فمن يمثل تطلعات أهل الشام بحق هو من يعمل لتطبيق ثوابت ثورتهم ويرفع لواء نبيهم ﷺ ويعلي راية هويتهم وحضارتهم وعزة إسلامهم؛ يمثلهم بحق من يحكمنا بدستور الإسلام المنبثق من عقيدة الإسلام لا من عقيدة المبدأ الرأسمالي العلمانية الذي أشقى أهله قبل أن يشقينا؛ يمثلهم من يضع رضا الله سبحانه قبل كل رضا ويضع تطبيق شرعه أول الثوابت، وهذا ما جاد أهل الشام بفلذات أكبادهم لأجله.
وإننا نذكّر المسلمين عموما وأهل الشام بشكل خاص؛ بأننا في حزب التحرير نقدم لهم مشروع دستور مستنبط في جميع مواده من الكتاب والسنة، وما أرشدا إليه من إجماع الصحابة والقياس الشرعي المعتبر، يبين شكل الدولة التي بينها لنا شرعنا، وحدد لنا أجهزتها، وصلاحيات هذه الأجهزة، حتى لا يبقى ما نسعى إليه مجرد شعار، أو مطلباً عاماً، بل هدفاً محدداً نسعى إليه على بصيرة بطريقة شرعية مستقيمة. وهو ليس دستوراً لدولة قطرية أو وطنية أو قومية، بل هو دستور لدولة المسلمين. وإننا نسعى لأن يوضع هذا الدستور موضع التطبيق العملي في دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي بشر بعودتها رسول الله ﷺ بقوله: «ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ»، دولة تكون رئاسة عامة للمسلمين جميعاً، لا تعترف بحدود وطنية أو قطرية خطها الكافر المستعمر بيديه الآثمتين، دولة تجمع شتات الأمة وتوحد قوتها، وتعيد لها قدسها وأقصاها، نسأل الله أن يكون ذلك قريباً. قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية سوريا