لقد تراجعت اليابان إلى المرتبة الرابعة بين كبرى اقتصاديات العالم لعام 2023 بعد الولايات المتحدة والصين وألمانيا، وكانت اليابان التي يبلغ عدد سكانها حالياً أكثر من 125 مليون نسمة، توصف تاريخياً بأنها المعجزة الاقتصادية، إذ قامت من رماد الحرب العالمية الثانية لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة وحافظت على ذلك خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي.
وفي عام 2010، انخفض ترتيب اليابان من ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة إلى المركز الثالث بسبب نمو الاقتصاد الصيني، وهذا أمر غريب، فالأصل نمو اليابان التي كانت ذات يوم ذات تطلعات دولية استعمارية، والأصل كذلك نمو اقتصادها.
ولعل الباحث في أسباب ضعف اليابان يجد عوامل كثيرة ومتعددة، ولكني هنا سأبحث في أهمها وأقواها، ألا وهو العقلية السياسية التابعة.
إن العقلية السياسية التي أنتجها الاحتلال الأمريكي لليابان غريبة جدا وعجيبة جدا، فبمقدار انبهار العالم بالقدرة العقلية الاقتصادية لليابان إلا أنها لم تنتج العقليات السياسية المبدعة والخلّاقة، وهنا سأعود بالقارئ الكريم إلى نموذج من تلك العقليات من خلال كتاب محمد حسنين هيكل في كتابه أحاديث في آسيا (موعد مع الشمس) مع كاكوي تاناكا (1972-1974) (زعيم أكبر جناح في الحزب الديمقراطي الحر، وترأس حكومتين حتى أواخر 1974، واستقال إثر "فضيحة لوكهيد"، وابنته ماكيكو تاناكا تولت وزارة الخارجية ثم التربية والثقافة)، حيث ذكر هيكل لتاناكا أن رئيس وزراء فرنسا كوف دي مورفيل قال له إن شكل الصراع الدولي المقبل سوف ينتقل من أوروبا والشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى حيث ستتقابل وجها لوجه أربع قوى من القوى العظمى في زماننا (الولايات المتحدة، الاتحاد السوفيتي، الصين، واليابان)، هل توافق على هذه النظرة؟ هل تختلف معها؟ هل لك تحفظات عليها؟ فقال تاناكا وهو يلتقط آخر جملة: إنني أتحفظ عليها فيما يتعلق باليابان، وذكر أخطر كلمة في اللقاء "إننا نريد أن نكون قوة اقتصادية بغير لون سياسي"، وذكر أن الدستور الذي صاغته أمريكا لهم بعد الاحتلال يحدد واحداً بالمئة من الإنتاج المحلي للدفاع!
ثم ذكر هيكل له أن اليابان قوة اقتصادية جبارة قد تتفوق على الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وأن هذه المعجزة الاقتصادية بحاجة للموارد وهي خارجية، وبحاجة إلى الأسواق وهي خارجية، وهذه المعجزة الجبارة بحاجة إلى أساطيل بحرية وخطوط مواصلات مفتوحة، فهل من الممكن أن تكون قوة اقتصادية بغير لون سياسي؟ وهل ممكن وجود لون سياسي بدون القوة المسلحة، خاصة وأنكم تعيشون المنافسة مع قوى كبرى حولكم؟! ويأتي الرد صاعقا مخيفا: "إن اليابان لن تكون الدولة التي ستحكم العالم"!!
يعيد هيكل كلامه بشكل آخر فيقول: أنتم أمام قوى ذرية؛ الصين، والاتحاد السوفييتي بينكم وبينه مشاكل حول جزر الكوريل، والولايات المتحدة ذرية... هل يمكن لليابان بقوتها الاقتصادية أن تكون عارية عن السلاح الذري أو سلاح يكفيها للدفاع عن نفسها أو مصالحها؟ فيأتي رد آخر يزلزل العقل فيقول: "إننا لن نتخذ قرارا بأن تكون لدينا قوة ذرية... نحن ممنوعون من ذلك دوليا، ودستورنا يحرمه، كما أننا لا نريده"!!
يرد هيكل فيقول: إمكانية صنع السلاح الذري متوفرة واقتصادكم قادر على ذلك وعندكم محطات توليد الطاقة (سلمية)، تستطيع أن تعطيكم كمية البلوتونيوم لإنتاج مخزون القنابل الذرية، كما أن الصواريخ ليست مشكلة أمامكم، فقال رئيس الوزراء: "لكننا لم نتخذ قرارا بالتسلح النووي ولن نتخذه، نحن نريد أن نعيش في سلام"!
من خلال قراءة الحوار بين هيكل ورئيس وزراء اليابان يتبين لنا كيف نجحت الولايات المتحدة في إيجاد تلك العقليات التي أسقطت كيانها في نفق مظلم من خلال خنجر مسموم بيد عملاء تلك البلاد وغيرها، مع أن اليابان دولة تدور بالفلك الأمريكي والأصل فيها تقديم مصلحتها إن تعارضت مع الولايات المتحدة، لكننا وجدنا بعض العملاء طعنوا كيانهم بخنجر العمالة، ولا يعلم أين ستكون مكانة اليابان تبعا لمصالح أمريكا؛ حيث أشارت تقديرات وتوقعات مؤسسات دولية ومنها صندوق النقد الدولي، إلى أن الاقتصاد الهندي سيتجاوز حاجز الـ4 تريليون دولار للمرة الأولى خلال العام الجاري 2024، ليستمر بالنمو ليتجاوز كلاً من الاقتصادين الياباني والألماني قبل حلول 2030 ليصل بذلك إلى المركز الثالث.
وهذه الدول سواء صعودها أو هبوطها طالما هو مرتهن بالقرار السياسي الأمريكي وليس مستندا إلى ذاتها ونظرتها ولونها السياسي، فإنها ستتقلب من مكانة لأخرى تبعا لمصلحة المركز، بيد أبنائها!! فلعنة التبعية قد أصابت هذه الدول، ولن يخرجها من هذا النفق المظلم إلا تبني وجهة نظر مغايرة عن الولايات المتحدة، تنبثق عنها نظرة اقتصادية شاملة مع استقلال القرار السياسي، لا تعرف للعمالة طريقا، بل دولة تفكر بقيادة العالم وفق مبدأ أقنع العقل ووافق الفطرة فملأ القلب طمأنينة، وهذا لن يكون إلا لدولة الخلافة القادمة بإذن الله، وليس لدول قادها سياسيوها إلى الهاوية تحت قولهم: لا نفكر بحكم العالم... لا نريد... لن نتخذ قرارا!! فالأرض للحشرات تزحف دونها والجو للبازي وللشاهين.