لقد بدأ حلف شمال الأطلسي (الناتو) بوضع خطط حربية ودراسات مستقبلية عن حرب بينه وبين روسيا، وتبنت وأعدت دول الناتو "آلاف الصفحات من الخطط العسكرية" التي وُصِفَت بـ"السرية"، والمتعلقة بمواجهة محتملة مع موسكو. وتتضمن هذه الخطط تفاصيل مواجهة عسكرية محتملة مع روسيا للمرة الأولى منذ عقود، ويقول متخصصون: "إن ذلك يرجع إلى أن الناتو، بعد بدء حرب روسيا ضد أوكرانيا، راجع سياسته تجاه روسيا الاتحادية التي لم يكن يعتبرها لفترة طويلة تشكل تهديداً وجودياً للحلف".
بداية، لقد حاولت روسيا الانضمام إلى الناتو وعقدت معه اتفاقيات، حيث وقعت معه عام 1997 على القانون التأسيسي للعلاقة بينهما، والذي يُلزمهما بالعمل معاً من أجل السلام والديمقراطية والأمن. وجرى كذلك تقييد التمركز الدائم لقوات مقاتلة إضافية تابعة للناتو في دول الحلف، ولكن ظل مسموحاً به في حالة الدفاع وفي حالة وجود تهديد. كما اتفقا على تعاون سياسي بعيد المدى وتم تشكيل مجلس الناتو وروسيا كمنتدى تشاور مشترك.
ولكن رفض دول الناتو ضم روسيا، ثم انتهاجها لسياسة "الباب المفتوح" والتوسع شرقاً، جعل روسيا تشعر بالخيانة والذل بعد الحديث عن تطمينات سرية كانت مع قادة الغرب بعدم التوسع شرقاً وعدم ضم أوكرانيا. ولكن الغرب خدعهم، كما ذكر بوتين في خطاب إعلان الحرب على أوكرانيا في شباط/فبراير 2022: "لقد وعدتمونا في التسعينات بأن الناتو لن يتحرك شبراً واحداً نحو الشرق. لقد خدعتمونا بوقاحة. خمس موجات من توسع الناتو (حدثت) بالفعل حتى الآن".
وفي الثامن عشر من شهر أيار/مايو 2022، تقدمت فنلندا والسويد بطلب رسمي للانضمام إلى حلف الناتو، والتخلي عن سياسة الحياد التي التزمتا بها منذ عقود.
أمريكا رأت بإيقاع روسيا في فخ أوكرانيا تحقيقاً لأهداف كبيرة، لأن الحرب الروسية الأوكرانية لم تنشأ طبيعيا، بل صنعتها أمريكا لأهداف استراتيجية كبرى، من خلال دخول روسيا الحرب بعد الحديث عن ضم أوكرانيا للناتو، وإطالة أمدها حتى تحقق الأهداف المطلوبة.
(كانت التقديرات العسكرية المقربة من الكرملين تشير إلى أنّ العملية العسكرية لن تأخذ أكثر من أيام لإنجاز المهمة الموكلة إليها، والتي تتعلق بضم بعض المقاطعات الأوكرانية إلى روسيا. لكنّ إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن كانت لها رؤية مختلفة، حيث وجدت في الحرب الدائرة في شرق أوكرانيا أهدافها الجيوسياسية، لهذا لم تتوانَ في فتح جسور الدعم العسكري والاستخباراتي واللوجستي لكييف في سبيل عرقلة الهجوم الروسي) (الجزيرة)
وكتب جيمس لاندال، مراسل الشؤون الدبلوماسية في هيئة الإذاعة البريطانية، في هذا الشأن فقال: "ربما تكون أهداف الحرب ضد روسيا هي المصدر الأهم للتوترات. ففي الوقت الحالي، يتحد الغرب وراء شعار الدفاع عن أوكرانيا، ويقدم الدعم الاقتصادي والعسكري لمساعدة البلاد على المقاومة، لكن ما هو الهدف على المدى البعيد؟"
وقد ذكرت مجلة ذا ناشونال إنترست الأمريكية: "أن الولايات المتحدة تبنت نهجاً مدروساً في حرب أوكرانيا، من خلال إبقاء قواتها بعيداً عن القتال المباشر، واختيار دعم كييف كقوة وكيلة ضمن استراتيجية أوسع تهدف إلى إضعاف القدرات العسكرية التقليدية لروسيا، دون المجازفة بأرواح الجنود الأمريكيين أو التورط في صراع مباشر بين الناتو وروسيا".
ويشير سي جيه أتكينز، مدير تحرير دورية عالم الناس، في مقال له حول الفخ الأوكراني، إلى أن استغلال المخاوف الأمنية الروسية المشروعة، إلى جانب الطموحات الإمبريالية لحكومة بوتين، جعل وضع الفخ أمراً مباشراً إلى حد ما، إن لم يكن بسيطاً. (العربي الجديد)
وبوتين، كعادة الروس المعروفين بـالضحالة والغباء السياسي، وقع في الفخ وظن أن حرب أوكرانيا لن تدوم طويلاً، والحقيقة أن أوكرانيا كانت الطعم الذي ابتلعه الدب الروسي دون أن يدرك ملامح السياسة الأمريكية وأهدافها.
إن أمريكا تهدف من حرب أوكرانيا إلى تحقيق ثلاثة أهداف هي:
- استنزاف روسيا وليس إنهاءها. وقد عبّر عن ذلك صراحةً مسؤولون غربيون بارزون؛ على رأسهم لويد أوستن، وزير الدفاع الأمريكي، الذي قال إن "الهدف هو رؤية روسيا في وضع أضعف". نعم، وقعت روسيا في الفخ وظنت أن أوكرانيا ستنهار خلال أيام وأن الدعم الغربي سيتلاشى. "لكن هذه المقاربة اصطدمت بواقع مختلف، فبدل الانهيار، توحّد الصف الأوكراني ودعمته تعبئة شعبية وتغطية إعلامية دولية، ما أفشل الهجوم السريع، وأجبر القوات الروسية على التراجع، ليتحول الصراع إلى حرب استنزاف طويلة".
- شيطنة روسيا وإخافة أوروبا لتبقى تحت حماية أمريكا ولا تفكر ببناء منظومة دفاع خاصة بها. لقد نجح بايدن في إظهار روسيا على أنها التهديد الأكبر للغرب، وبالتالي تبددت تلك المحاولات لبناء علاقات أوروبية روسية مستدامة، بسبب تضارب الرؤى الاستراتيجية بين الجانبين. ذكرت مجلة ذا ناشونال إنترست أن الحرب الروسية ساهمت في إحياء حلف الناتو، الذي شهد فتوراً خلال العقود التي أعقبت الحرب الباردة. وقد أدى ذلك إلى زيادة الإنفاق الدفاعي للحلفاء الأوروبيين، وضم دول محايدة سابقاً مثل السويد وفنلندا إلى الحلف، ما عزز تماسكه ودوره الأمني في القارة الأوروبية، بل رفع الحلف من ميزانيته المدنية بنسبة 27.8٪ لتصل إلى ما يزيد عن 370 مليون يورو وزاد ميزانيته العسكرية بنسبة 25.8٪ لتصل إلى ما يقرب 2 مليار يورو. وأخيراً، بيّنت الحرب أن أوروبا لا تزال تحتاج إلى مظلة واشنطن الأمنية وردعها للصراعات الأوروبية الأوروبية وقيادتها للحلف.
- فك العلاقة بين روسيا والصين، بل محاولة ضم روسيا بعد احتوائها لتكون جزءاً من استراتيجية احتواء الصين. حيث يُعد إضعاف روسيا وإنهاك قوتها في الحرب هو إضعاف للصين أيضاً، وهو الأمر الذي تستفيد منه أمريكا. فبسبب الحرب في أوكرانيا، قد تفقد الصين حليفاً مهماً لها كان يدعمها دولياً وينسق معها المواقف الدبلوماسية، وبالتالي أدى سوء تقدير بوتين في الحرب إلى توريط الصين معه، إلى حد ما، في مستنقع أوكرانيا.
وتابعت المجلة: "ولذلك عظّمت واشنطن استفادتها من هذه القناعة في الفترة الأخيرة وعملت على زيادة وتيرة التنسيق العسكري وتبادل الخبرات بين أعضاء حلف الناتو في أوروبا وحلفائها في شرق آسيا مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، ويؤدي هذا التنسيق الاستراتيجي إلى توسيع نفوذ واشنطن وزيادة قدراتها في مواجهة موسكو وبكين".
لذا، فأمريكا لا تريد إنهاء روسيا بحجة اتساع رقعة الحرب والخوف من الحرب النووية، فبقيت تدعم أوكرانيا بحذر، لكنها لم تقدم لها الأسلحة الفتاكة والهجومية، فكانت المساعدات بقدر معين لتحقيق أهداف الحرب.
ونتيجة إطالة أمد الحرب، اختلفت التوجهات الأوروبية والأمريكية، لكن أوروبا لا تملك قراراً حتى فيما يتعلق بأمنها، ولا فيما يتعلق بحرب أوكرانيا، بل ليست هي صاحبة القرار السياسي لأن المفاوضات هي بين روسيا وأمريكا. أوروبا تريد وقف الحرب وبدون شروط مسبقة لأنها تكتوي بنارها وآثارها وتبعاتها. وروسيا التي فقدت هيبتها وخسرت أكثر من ربع مليون مقاتل حسب الإحصاءات الغربية تركض خلف ترامب لعقد لقاء لحفظ ماء وجهها، ويمتنع ترامب، محاولة منه لتحقيق الهدف الثالث فيما يتعلق باحتواء الصين.
نشرت صحيفة تلغراف البريطانية تحليلاً بعنوان: "أسطورة قوة بوتين تنهار.. ربما تكون النهاية أقرب مما يظن"، كتبه مارك برولين، المختص في الشؤون الاستراتيجية الجيوسياسية، زعم فيه أن أسطورة قوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدأت تتهاوى، وأن نهاية نظامه قد تكون أقرب مما يتصوره كثيرون، وأولهم بوتين نفسه، معتبراً أن التحول الأخير في موقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه موسكو يمكن أن يعجّل بانتهاء الحرب في أوكرانيا وربما بانهيار النظام الروسي نفسه.






















رأيك في الموضوع