مع دخول الحرب السودانية عامها الثاني، بدأت تتبلور ملامح تحول كبير في طبيعة المواجهة بين الجيش السوداني، وقوات الدعم السريع المتمردة، إذ تجاوز الصراع طابعه التقليدي ليدخل طور "حرب الظلال"، حيث أصبحت الطائرات المسيّرة (الدرونز) هي العنصر الأبرز في ساحة القتال.
في البداية، امتلكت المليشيا أفضلية عددية واضحة، مع انتشارها الكثيف في الخرطوم، وقوام بلغ نحو مائة ألف مقاتل، مقابل نحو أربعين ألفاً من أفراد القوات المسلحة. وكان الجيش يعاني من اختلال هيكلي، تمثّل في ارتفاع نسبة الضباط مقابل الجنود. إلا أن الجيش استطاع تجاوز صدمة التمرد المباغت، وأعاد بسرعة تنظيم صفوفه وبدأ باستعادة زمام المبادرة.
أحد أبرز عناصر التحول كان دخول سلاح الطيران والطائرات المسيّرة التي غيّرت موازين المواجهة، إذ أتاحت للجيش تنفيذ ضربات دقيقة استهدفت خطوط الإمداد ومراكز القيادة ومخازن السلاح، وحتى التجمعات المحصنة داخل المدن. هذا الاستخدام الذكي للتقنية شل قدرة المليشيا على الحركة، وحوّل كثافتها العددية إلى عبء.
ومع الوقت، تحول الجيش من الدفاع إلى الهجوم، وبدأ بتقليص نفوذ المليشيا وتفكيك بنيتها، ما دفعها إلى التبعثر والتحول إلى عصابات نهب وترويع في الأطراف. لكن الخطر تصاعد مجدداً، إذ حصلت المليشيا مؤخراً على طائرات مسيّرة، واستخدمتها لضرب أهداف عسكرية ومدنية، متبنية تكتيك "الأرض المحروقة" لشل الحياة ومنع عودة النازحين.
في 18 كانون الثاني/يناير 2025، تعرّضت محطة كهرباء الشوك لقصف مسيّر، ما أدى لانقطاع الكهرباء عن القضارف وكسلا وسنار. تبع ذلك هجوم على محطة كهرباء دنقلا، فغرقت الولاية الشمالية في ظلام دامس، كما استُهدفت منشآت حيوية مثل سد مروي، ما عطّل إنتاج الكهرباء جزئياً. ولم يسلم قطاع المياه كذلك، إذ قصفت محطة المنارة في أم درمان ومحطة مياه القضارف، واضطر السكان للجوء إلى مياه النيل والآبار وسط شحّ وارتفاع أسعار.
هذه الهجمات أثرت مباشرة على حياة الناس، مع تعطل المستشفيات والمخابز ومنشآت الإنتاج الغذائي. في بورتسودان، استهدفت المسيرات المدينة ومنشآتها الحيوية لأربعة أيام متتالية، مسببة انفجارات أرعبت السكان. شهد اليوم الأول قصف مطار بورتسودان وقاعدة عثمان دقنة، ما أدى لتعليق الرحلات. وفي اليوم التالي، ضُربت المستودعات الاستراتيجية، واشتعلت النيران فيها حتى اليوم التالي.
وفي تطور نوعي، استُهدف فندق مارينا والميناء الجنوبي بصاروخ، وتكرر قصف المطار، ما دفع السلطات إلى تعليق الرحلات مرة أخرى. كما أعلنت شركة الكهرباء عن توقف محطة كهرباء بورتسودان وخروج المدينة عن الخدمة.
هذا الاستخدام المتصاعد للمسيّرات، بدعم غير مباشر من الإمارات التي تتماهى مع المصالح الأمريكية، يعكس مرحلة خطيرة في الحرب، باستهداف المطارات، ومستودعات الوقود، ومحطات الكهرباء. ويبدو أن أمريكا، بعد أن حققت أهدافاً من استمرار الحرب، بدأت الآن بالدفع نحو التفاوض، وقد ازدادت التصريحات الدولية في هذا الاتجاه.
ففي 5 أيار/مايو 2025، قال مسعد بولس، مبعوث ترامب، لقناة الجزيرة إن الإدارة الأمريكية تسعى لحلول سلمية للأزمة، مشيراً إلى أولوية الملف السوداني لدى واشنطن. وفي 28 آذار/مارس 2025، أكد وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو من أبو ظبي أن بلاده تجري محادثات مع دول مثل إثيوبيا وكينيا لحل الأزمة، مع دعمها لمسار الحكم المدني.
هذه المؤشرات الدولية تزامنت مع تحركات على الأرض، أبرزها انسحاب منظم لقوات الدعم السريع من العاصمة دون قتال، وتمركزها في جنوب غرب الخرطوم، ما فُسّر كتفاهم ضمني لتهيئة أجواء التفاوض.
وفي 6 أيار/مايو 2025، أورد موقع روسيا اليوم أن مجلس الوزراء السعودي، برئاسة محمد بن سلمان، طالب بوقف فوري للحرب، ودعا لحل سياسي يحترم سيادة السودان. أما في الداخل، فقد بدأت مواقف القيادات العسكرية تميل نحو القبول بفكرة التفاوض، بعد رفض طويل.
وفي 12 نيسان/أبريل 2025، صرّح ياسر العطا بأن قرار الحرب أو التفاوض يعود للشعب، مطالباً الإعلام بتوثيق جرائم قوات الدعم السريع. كما نقلت الجزيرة عن شمس الدين كباشي قوله إن "الشعب هو من يقود المعركة وأي سلام سيكون بأمره". هذه التصريحات تختلف كثيراً عن مواقف سابقة، ففي 3 كانون الأول/ديسمبر 2024، كان كباشي قد أغلق الباب أمام أي تفاوض، مؤكداً استمرار القتال حتى القضاء على المليشيا. وفي 15 تموز/يوليو 2024، أكد العطا أن الجيش لن يتفاوض حتى لو استمرت الحرب مائة عام.
هذا التغيير في الخطاب يعكس تحوّلات أمريكية واضحة. فقد أوردت سودان تربيون في 8 أيار/مايو 2025 أن الجيش أوقف تزويد الجماعات المسلحة المتحالفة معه بالسلاح، وراجع إجراءات التجنيد، في إشارة إلى نية حقيقية للتهدئة.
لكن يبقى الرأي العام في السودان متحفزاً ضد التفاوض، خاصة في ظل انتصارات الجيش المتوالية، واستعادة العديد من المدن، والغضب الشعبي العارم تجاه مليشيا الدعم السريع، التي تورطت في جرائم ضد المدنيين.
ويبدو أن تفجيرات البنية التحتية ليست سوى وسائل ضغط لإجبار الشارع على القبول بالتفاوض، الذي تُعدّ له أمريكا منبر جدة.
مع الأسف، صارت محور الشر أمريكا تشعل الحروب وقتما تشاء وكيفما تشاء وتوقفها كما تشاء، حسب ما تقتضيه مصالحها، وتدمر البلاد بأيدي حكامها العملاء الذين سلطتهم على رقاب الناس. فصار حكامنا كالريشة في مهب أمريكا، وما كان هذا ليكون لو كانت للمسلمين دولة حقيقية لا تستند إلا إلى الله تعالى في جميع أعمالها فتحفظ البلاد والعباد من تربص الخائنين وكيد الكائدين. قال ﷺ: «إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ».
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية السودان