بينما كانت غزة ولا تزال، تحت النار تُقصف، وتحاصر وتجوع، وتقام فيها فخاخ "المساعدات" الخبيثة لاستقطاب الجوعى المحاصرين وقتلهم، قام كيان يهود بشن عدوان على إيران، والبدء بضربها في عمليات جوية وغير جوية، لتصبح الحرب على إيران، خصوصا بعد أن بدأت إيران بالرد الصاروخي في قصف مدن الكيان، هي محط أنظار العالم وبؤرة التركيز، ولتُحجب المأساة في غزة عن الأنظار، وعن أن تكون بؤرة التناول الإعلامي والسياسي، رغم استمرار القتل فيها والإجرام والإبادة بالوتيرة نفسها، بل أشد وأكثر، حيث باتت تُسجل الأرقام العالية من الضحايا والشهداء يوميا.
إن الناظر في الحرب التي يشنها كيان يهود على غزة، وما تخللها من أحداث في المنطقة حتى اللحظة، يرى أن ما يقوم هذا الكيان بتنفيذه وبدعم أمريكي تام، يهدف إلى تفكيك وإزالة لما يعرف بـ"المحور"، وقد اتخذ الأمر شكل المعادلة الصفرية، التي يسعى فيها نتنياهو ويطارد ما يسميه بالنصر المطلق، في صلف وغطرسة وعنجهية يشاركه فيها ترامب، وإيجاد شرق أوسط جديد كما يطمحون ويزعمون سِمته الخنوع والخضوع، بحيث يكون كيان يهود فيه قطب الرحى واليد الطولى الضاربة.
على أنه وبرغم الضربات، والبطش الذي مارسه كيان يهود في عدوانه الواسع على المنطقة بأسرها، إلا أن غزة بالذات كانت هي العقبة الصعبة، التي حالت بين نتنياهو وبين إعلان نصره "المطلق"، أو حتى الاقتراب منه، حيث باتت قضية الأسرى، وطول الحرب دون حسمها بالقضاء على المجاهدين، إضافة إلى ضغوط الرأي العام العالمي، والتي صارت تعزل كيان يهود وتفضحه وتحقر من صورته في نظر الشعوب، خصوصا بعد إجرامه في استثمار الجوع من أجل القتل في مراكز المساعدات، باتت كلها معضلات يومية لحكومته، مع ما صاحب ذلك من أزمات في الداخل إلى درجة التصويت على فرط عقد الحكومة والذهاب إلى الانتخابات، في أثناء ذلك كله قام نتنياهو بالقفز في أتون الضربة لإيران والتي طال انتظارها، متجاوزا حالة غزة إلى الحرب مع إيران.
ومع الانشغال بالحرب مع إيران، وإن كان التركيز قد انتقل إليها من الحرب عن غزة، إلا أن هذه الحرب بطبيعتها تفرض أمورا لها آثارها ووطأتها المرتبطة بغزة، فقد كان لطبيعة الرد الإيراني بضربات لم يعتدها كيان يهود ومجتمعه ضرر كبير، وإذا أضيف لهذه الأضرار ما خلفته الحرب على غزة ولا تزال من إنهاك لجيشه واستنزاف لاقتصاده، وإرهاق لمجتمعه الهش الهلع، الحريص على الحياة، فإن استمرار الحرب على غزة يجعلها جبهة ثقيلة، خصوصا مع استمرار الخسائر والإصابات التي تلحق بجنوده بشكل شبه يومي، وبقاء الاشتباك مع إيران مدة طويلة ستكون وطأته ثقيلة عليه، في ظل عناد نتنياهو الذي يسعى للبقاء على الجبهات لتحقيق نصره المزعوم، والحقيقة أن الدعم الأمريكي فقط هو الذي يبقي كيانه واقفا على قدميه، وهو ما حرص عليه نتنياهو من خلال سعيه لإشراك ترامب في الحرب على إيران أملا في تقصيرها، وهو ما تم بالفعل.
وهنا، فقد كان يمكن أن تكون للضربات الإيرانية آثار محققة فاعلة لو كانت في بداية الحرب على غزة، وكانت مبادرة بالهجوم، وليست ردود أفعال على عدوان يهود الساحق بعد تهشيمه لعظام إيران من داخلها وعلى أرضها، وقصقصة أطرافها وقطع أذرعها في الخارج، حتى تفاخر قادة يهود غطرسة واستكباراً بأنهم سيغيرون وجه الشرق الأوسط، وقد كانت الفرصة سانحة لضربه بقوة حين انخرط بكل قواه في الحرب على غزة والضفة، وقد ظهرت هشاشته، ولعل قدرته في الاستمرار بالحرب على غزة، على تآكلها، كانت آتية من أن الحرب مع إيران هي حرب في الأجواء دون الأرض، ولو كان حكام المسلمين رجالا وليسوا نعاجا عملاء لاستغلوا هذه الفرصة في استئصال هذا الكيان اللعين والخلاص من شره.
نعم لقد كان بالإمكان، ولكن ليس هذا هو ما كان، وأنى يكون ذلك ومشروع إيران لم يكن يوما مشروعا لتحرير فلسطين، وما انخراطها في أمر فلسطين إلا للتوظيف المصلحي والاستثمار، فمشروع تحرير فلسطين لا تخطئه عين، وهو قطعا لا يقوم على الإجرام بحق شعوب الأمة وبلدانها وسفك دمائها كما فعلت إيران في الشام، ولا على التآمر مع "الشيطان الأكبر" حين تعاونت معه لاحتلال العراق وأفغانستان فتركت نفسها عارية من جغرافيا قوية حتى جاءها الدور، ولا على شرخ الأمة بمشروع طائفي بغيض كانت أمريكا ومعها كيان يهود أكثر المستفيدين منه والمستثمرين فيه.
وأنى يكون ذلك والبقية من الأنظمة قد أعلنت مشروعها بتولي يهود والنصارى، والخضوع لكيان يهود وأمريكا، وهو مشروع لا يقصدون منه سوى إبقاء عروشهم وتأمين وجودهم كأنظمة حاكمة، ولو كانت دماء شعوبهم وكرامة بلادهم ومستقبلها هي الثمن لاحقا، ولو كان وهم "الأمن والأمان" الذي يحاولون تسويقه للحمقى هو خديعة مؤقتة إلى حين الذبح.
إن الأحداث التي تمر بها الأمة الإسلامية في هذه الأيام شديدة الكثافة في كل شيء، غزيرة في الدماء، شديدة في استعلاء الأعداء، وفي خذلان الأنظمة الذي تعدى كل وقاحة، وخيانتها التي لم تعد تبالي بظهورها بل والتصريح بها، وهي أيام قد أسفرت عن كل وجه قبيح، ولكن عسى أن يكون جانب الخير فيها موجوداً بإذن الله، وأقله أن ركاما من الأوهام والتضليل قد تبخر، ومشاريع خادعة أُشغلت الأمة بها قد تفككت، لتقف الأمة أمام واقعها واضحا لا لبس فيه، ولتدرك، ويجب عليها أن تدرك، أن فرقتها وقُطرياتها ووطنياتها ما أوردتها إلا سبل الهلاك وأغرت بها الأعداء، وأن عليها أن تختار إما مشروع الإسلام العظيم الجامع في دولة الإسلام التي تلم شعثها وتجمع شتاتها، وإما، لا قدر الله، أن تعيش في عصر جديد من الخضوع لأمريكا ويهود أسوأ من كل ما سبقه، فإن كان خيارها الإسلام والنهوض به، وهو ما لا يستقيم سواه، فإن الله تعالى ينصرها ويكفيها عدوها ويطفئ ناره، ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾.
بقلم: الأستاذ يوسف أبو زر