منذ وقف إطلاق النار الذي توسط فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أبدت باكستان رغبة قوية في بدء حوار جاد مع الهند بشأن عدد من القضايا الأمنية، بما في ذلك مستقبل كشمير، وتهدئة التوتر على خط السيطرة، والأهم من ذلك، إلغاء قرار الهند تعليق معاهدة مياه السند، فهذه المعاهدة توفر لباكستان نحو 80٪ من احتياجاتها المائية من ثلاثة أنهار رئيسية هي: السند، وتشناب، ورافي.
إلا أن مبادرات باكستان قوبلت بالرفض من الهند مراراً. حيث صرّح وزير داخليتها أميت شاه لصحيفة تايمز أوف إنديا قائلاً: "كلا، لن تُستأنف المعاهدة أبداً. سنحوّل المياه التي كانت تتدفق إلى باكستان إلى راجستان من خلال بناء قناة. وسنجعل باكستان تموت عطشاً لأنها كانت تحصل على هذه المياه بشكل غير مبرر". ولهجة شاه تنذر بأن العلاقات بين القوتين النوويتين تسير نحو مزيد من التدهور.
وعلى المدى القريب، لا تستطيع الهند تنفيذ تهديدها بشكل فعلي، إذ لا تمتلك البنية التحتية اللازمة لقطع المياه التي تغذي الروافد الزراعية الباكستانية. وقد يستغرق بناء القناة سنوات عدة. ومع ذلك، يمكن للهند أن تُحدث أضراراً جسيمة بالزراعة الباكستانية من خلال الامتناع عن مشاركة بيانات حساسة تتعلق بتدفق المياه من الأنهار الثلاثة. وقد اعتادت الهند مشاركة هذه البيانات، وكانت باكستان تعتمد عليها لتجنّب كوارث زراعية في الماضي.
إن رفض الهند استئناف الحوار لا يطرح فقط تساؤلات صعبة حول شروط وقف إطلاق النار الذي قبلت به باكستان، بل يسلط الضوء أيضاً على البيان الصادر عن مجلس الأمن القومي الباكستاني بشأن تعليق الهند للمعاهدة، والذي وصف ذلك بـ"عمل حربي" سيتم الرد عليه بـ"القوة الكاملة عبر كل أبعاد القوة الوطنية".
وخلال الحرب القصيرة الأخيرة، كان من الواضح أن باكستان قد فرضت سيطرة جوية على الهند، التي اضطرت للسعي إلى وقف إطلاق النار لأن سلاحها الجوي كان مشلولاً فعلياً. ومع ذلك، وبدل استغلال هذا الوضع والمطالبة بضم كشمير المحتلة، أو على الأقل السيطرة على مدينة مثل سريناغار، اختارت باكستان موقفاً دفاعياً، وانسحبت من مواقعها المتقدمة، ووافقت على شروط وقف إطلاق النار الذي لم يتجاوز كونه وعداً باستئناف الحوار. لكن تلك المحادثات لم تحدث مطلقاً، كما رفضت الهند أية وساطة أمريكية. حيث قال مودي لترامب: "الهند لن تقبل أبداً وساطة طرف ثالث في قضية كشمير".
وبدون معالجة القضايا الأمنية الجوهرية لباكستان - كإعادة العمل بمعاهدة المياه، أو نزع عسكرة خط السيطرة، أو إنهاء الاحتلال الوحشي لكشمير، أو الحفاظ على استقرار مشروع الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني - منح رئيس أركان باكستان، عاصم منير، نفسه لقب مشير ميداني، ورشّح ترامب لجائزة نوبل للسلام! ولم يكن هذا أول إخفاق في تحويل الانتصارات الميدانية إلى مكاسب سياسية استراتيجية. ففي عام 1999، سيطرت باكستان على مرتفعات كارغيل، وكانت لديها فرصة ذهبية لتحرير كشمير المحتلة، لكنها خضعت لتدخل أمريكا ولم تستطع تحويل مكسبها العسكري إلى نصر سياسي. ويرجع سبب هذه الإخفاقات إلى أمرين:
أولاً: هدف الحرب لا يقتصر على الدفاع، بل تحقيق أهداف سياسية واضحة، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال عقيدة هجومية. وتفترض هذه العقيدة تحويل الجهاد الدفاعي إلى جهاد هجومي، مصحوب بجملة من الإجراءات السياسية والدبلوماسية. وبالنظر من هذه الزاوية، فإن حل معضلة معاهدة المياه - والتي تتمثل في ضمان الوصول الدائم وغير المنقطع إلى الأنهار الثلاثة - لا يمكن تحقيقه إلا من خلال خطوات هجومية تهدف إلى نتائج استراتيجية بعيدة المدى، مثل ضم كشمير.
ثانياً: لا تزال القيادة الباكستانية تحصر تحركاتها في إطار القانون الدولي، وتسعى دائماً لنيل موافقة واشنطن قبل اتخاذ أي خطوة دبلوماسية أو عسكرية وهذا انتحار سياسي. ويمكن ببساطة النظر إلى العراق وليبيا وإيران لرؤية كيف أدت طاعتها العمياء للقانون الدولي إلى تدميرها، وإذا استمرت في هذا النهج، فإن مصير باكستان لن يختلف كثيراً.
وضمن هذا السياق، لا بدّ للقيادة الباكستانية أن تتجرأ على إعادة التفكير والتصرف خارج الصندوق عند التعامل مع هذه التحديات. وهذا يتطلب من الطبقة السياسية أن تتحرر ذهنياً من التبعية للولايات المتحدة، ومن قيد القانون الدولي. فعلى سبيل المثال، يجب أن تُدرك الطبقة السياسية في باكستان أن الهزائم الاستراتيجية الأمريكية في العراق وأفغانستان، وفشلها في أوكرانيا، وعجزها عن التصدي لهجمات الحوثيين، كلها تشير إلى تراجع قدرة أمريكا على تشكيل النظام العالمي. وعلاوة على ذلك، على مدار الأربعين عاماً الماضية، استغلت أمريكا باكستان لخدمة أجنداتها: من هزيمة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، إلى توظيف انتفاضة كشمير والاختبارات النووية لإيصال حزب بهاراتيا جاناتا الموالي لأمريكا إلى الحكم. ولا ننسى أن أمريكا لم تكن لتنجح في تنفيذ مشروعها الجديد في الشرق الأوسط لولا دعم باكستان الكامل في الحرب العالمية على الإسلام.
إن هذا الاعتماد الأمريكي على باكستان، يجب أن يوجّه رسالة واضحة للنخبة السياسية في باكستان بأن أمريكا لم تعد تعتبر نفسها قوة لا غنى عنها، بل تعتبر باكستان أداة حاسمة للحفاظ على نفوذها المتداعي. ولولا تعاون باكستان معها، لكانت الهند قد خرجت من كشمير المحتلة منذ عقود. لذلك، إن لم تتمكن النخبة السياسية من إدراك هذه القوة التي تمتلكها باكستان، ورسم مسار مستقل، فإن البلاد تواجه أزمة وجودية من صنع قيادتها نفسها وتبعيتها للتدخلات الأمريكية. بينما لو فكّرت هذه النخب بمشروعٍ حضاريٍّ جديدٍ لباكستان، يمكّنها من الاستقلال عن أمريكا، وبناء دولة عظمى بعد تحرير كشمير واستعادة شبه القارة الهندية تحت قيادتها، لكانت بذلك قد أحسنت استغلال قدرات باكستان الحضارية والاقتصادية والعسكرية. وهذا المشروع الحضاريّ متوفر لدى حزب التحرير، الذي يعمل لإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، ويجعل من باكستان قاعدةً لانطلاقها. فدولة الخلافة المرتقبة هي الملاذ الوحيد القادر على إنقاذ باكستان من التبعية لأمريكا وتجبّر الهند، والارتقاء بها إلى موقع الريادة. لذلك، فإنّ العمل مع حزب التحرير، وتسليم السلطة له، هو الحلّ الجذريّ لنكبات باكستان، ولتفريط قيادتها السياسية والعسكرية بانتصارات شعبها وجيشها.
بقلم: الأستاذ عبد المجيد بهاتي – ولاية باكستان