(مترجم)
تُظهِر الحروب الدائرة في أنحاء مختلفة من العالم، وخاصةً الحرب بين روسيا وأوكرانيا والصراع بين إيران وكيان يهود، بوضوح أنّ العالم قد دخل مرحلة جديدة ومتميزة من الحرب العسكرية والاستخباراتية. فالنظرة التقليدية البالية للحرب، القائمة على قوات المشاة الضخمة والدبابات والمدفعية، تتغير وتنهار بسرعة. واليوم، تُخصِّص قوى كالولايات المتحدة والصين وروسيا ميزانيات ضخمة للصناعات العسكرية المتقدمة، وتعيد تعريف أساليب الحرب الجديدة بنشاط. لم تعد المعارك على الجبهات الحديثة تقتصر على الرّصاص والبنادق، بل أصبحت معارك خوارزميات وذكاء اصطناعي وطائرات بدون طيار وشبكات سيبرانية وموجات أقمار صناعية.
ففي أوكرانيا، نجحت طائرات بدون طيار تجارية بسيطة في تدمير دبابات وطائرات روسية. وفي غزة، نفَّذ كيان يهود عمليات قتل جماعي باستخدام آلاف الطائرات بدون طيار المُزوَّدة بالذكاء الاصطناعي. وفي اليوم الأول من الحرب، اغتال عدداً من كبار القادة العسكريين الإيرانيين. ووسّعت الصين جيشها السيبراني. وتستثمر الولايات المتحدة في الجيل القادم من أسلحة الليزر والحرب الإلكترونية.
تحمل هذه المنافسة المتنامية رسالة واضحة وجادة في حروب المستقبل، وهي أن الدول الرائدة في التكنولوجيا العسكرية والصناعات الدفاعية ستكون هي القوى المهيمنة. وستعتمد حروب المستقبل بشكل أقلّ على الجنود البشريين، وبشكل أكبر على الآلات التي تعمل بلا كلل، دون خوف، ودون الحاجة إلى راحة. في العقد القادم، ستدخل الروبوتات الشبيهة بالبشر تدريجياً في خطوط القتال والعمليات للجيوش المتقدمة. وستحلّ الأنظمة المستقلة محلّ الطيارين البشريين، وستقوم الطائرات بدون طيار بمهام الاستطلاع والهجوم، وستنتقل سلطة اتخاذ القرار إلى خوارزميات معقدة. في حروب المستقبل هذه، لن يحدَّد التفوق بالشجاعة البدنية، بل بالذكاء والتكنولوجيا والقدرة على استخدام الأساليب والأدوات المتقدمة بفعالية.
السؤال الجوهري هو: أين نحن المسلمين في هذه المعادلة؟ الحقيقة المؤلمة هي أنّ الخلافة - التي كانت في يوم من الأيام في طليعة القوة العسكرية والابتكار في ساحات المعارك - لم تعد موجودة اليوم. نفتقر إلى هذه الدولة التي لا تدافع عن الأمة فحسب، بل تمتلك أيضاً قوة الردع والمبادرة العسكرية.
إن تاريخنا حافل بأمثلة مشرقة على التميز العسكري. ففي عهد الخلافة، حقّق المسلمون انتصارات حاسمة في معارك مثل الخندق، ومؤتة، واليرموك، ونهاوند، وفتح الشام، والقسطنطينية، رغم مواجهتهم أعداءً متفوقين عليهم عدداً وعتاداً، بفضل استراتيجية دقيقة، وروح قتالية مبتكرة، وإيمان راسخ. ومع الأسف، اليوم، وفي غياب الخلافة، أصبحت تلك الأمة نفسها ضحية تفجيرات وحروب بالوكالة داخل أراضيها.
إذا لم تكن الخلافة قائمة اليوم، فهل يجب علينا كأمة أن نبقى سلبيين ومتفرجين؟ قطعاً لا. إنّه لواجب علينا أن نسعى بكل قوانا وإمكاناتنا لإقامة الخلافة على منهاج النبوة. هذا المسعى ليس مجرد واجب ديني، بل هو ضرورة ملحّة لتعويض النكسات الفكرية والسياسية والعسكرية التي تعاني منها الأمة.
من وجهة النظر الإسلامية، فإن مفهوم الإعداد كما ورد في القرآن الكريم: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوَّةٍ﴾، ليس مرحلة تقنية تبدأ بعد قيام الخلافة؛ بل هو التزام تاريخي مستمر على الأمة. فإنّ الإعداد على جميع المستويات - من الفردية إلى الجماعية – هو واجب ديني، وإهماله يُعدّ معصية لأمر الله سبحانه وتعالى. صحيح أنّ التحقيق الكامل والمنظم للإعداد لا يمكن تحقيقه إلا بقيادة الخلافة، ولكن هذا لا يعني أنّ الأمة لا تتحمل أية مسؤولية قبل قيامها.
من الضروري أن يبدأ المسلمون في وضع أسس القوة العسكرية من خلال تنمية الوعي السياسي والعسكري بينهم، وإنشاء شبكات علمية، وتشكيل فرق بحثية تركّز على الصناعات العسكرية. لا يمكننا أن ننتظر بسلبية قيام الدولة ثم نبدأ بالتحضير. بل على العكس، عندما تقام الخلافة، لا بدّ من وجود فرق تقنية وهندسية وعسكرية وقيادية مدربة ومجهزة، حتى تتمكن الخلافة من التحول بسرعة من دولة ناشئة إلى قوة عسكرية عالمية. فهذا بالضبط ما فعلته القوى العالمية، وليس من حقّ الأمة الإسلامية أن تتخلف عن الركب.
من البديهي أن الأمة غير المجهزة ستعيق دولتها، لكنّ الأمة المجهزة سترفعها إلى العظمة والمجد. نحن كأمة مكلّفون بحمل راية الإسلام وقيادة البشرية، ولا يمكن تحقيق هذه القيادة إلا بدولة قوية ومجهزة تجهيزاً كاملاً، لا سيما في القدرات العسكرية والتكنولوجية والصناعية. إن أمة النبي محمد ﷺ ليست مجرد متفرجة على استعراضات الآخرين لقوتهم؛ بل يجب أن تكون هي نفسها صانعة أعظم التحولات العسكرية والتكنولوجية في هذا القرن. ويبدأ هذا الطريق اليوم بالعمل الفكري والسياسي لإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة.
بقلم: د. عبد الرحمن عرفان – ولاية أفغانستان