دعت اليونان الحكومة الليبية المعترف بها دولياً (حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس) لبدء مفاوضات ثنائية حول ترسيم الحدود البحرية والمناطق الاقتصادية الخالصة (EEZ) في البحر المتوسط. تهدف هذه الخطوة إلى إصلاح العلاقات المتوترة منذ توقيع الاتفاقية البحرية الليبية التركية المثيرة للجدل عام 2019. كذلك معالجة اعتراضات ليبيا على مناقصة التنقيب عن الهيدروكربونات التي أطلقتها اليونان قرب جزيرة كريت وتعزيز التعاون الثنائي، خاصة في مجال مكافحة الهجرة غير النظامية القادمة من ليبيا نحو الجزر اليونانية (مثل كريت وغافدوس)
الخلفية المباشرة للتوتر تعود لتوقيع حكومة الوفاق الوطني الليبية وتركيا في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بينهما. رُسمت الحدود في هذه الاتفاقية بطريقة تتجاهل تماماً وجود جزيرة كريت اليونانية (والجزر اليونانية الأخرى)، حيث اعتبرت خطاً مستقيماً بين الساحل الليبي والساحل التركي. كما تعكس الاتفاقية استمراراً لرؤية تركيا الإقليمية كوريث للخلافة العثمانية، حيث تُبرر أنقرة الاتفاقية بالحقوق التاريخية الموروثة من المعاهدات العثمانية، مثل معاهدة لوزان سنة 1923، التي تعتبرها تركيا غير مُلزمة بحدودها البحرية الحالية.
هذا التوجه يتجسد في تقديم تركيا دعماً عسكرياً مباشراً لحكومة طرابلس منذ عام 2019، مستندةً إلى روابط تاريخية وقاعدة بحرية سابقة في العهد العثماني. في حين ترفض اليونان هذا الطرح، مؤكدة أن القانون الدولي الحديث يُلغي الشرعية التاريخية. وقد لجأت أثينا إلى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات على تركيا، معتبرة الاتفاق "انتهاكاً للسيادة".
ردود الفعل الدولية:
أثارت هذه الاتفاقية غضباً شديداً في اليونان وقبرص ومصر، واعتبرتها انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي للبحار (UNCLOS) الذي يُعطي للجزر حقوقاً بحرية كاملة. كما واجهت إدانة ودعوات لإلغائها من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، خشية من تصاعد التوتر في منطقة حيوية للنقل البحري والطاقة. دعم أوروبا لليونان كحاجز ضد التمدد الروسي في المتوسط عبر حلفاء مثل الجنرال حفتر في شرق ليبيا. ومع ذلك، يُظهر الاتحاد الأوروبي انقساماً داخلياً بين دعم اليونان سياسياً والرغبة في ضمان إمدادات الطاقة من ليبيا عبر تركيا.
أما روسيا فترى في هذا التنافس فرصة لتعزيز وجودها العسكري وعرقلة لمشاريع خطوط الغاز المنافسة من مثل إيست ميد، التي قد تقوض صادرات الغاز الروسي.
الصين كذلك عبر استثماراتها في بنية ليبيا التحتية، مستفيدة من الفراغ الأمني لتعزيز مشروع الحزام والطريق.
في حين يتذبذب الموقف المصري بين معارضة الاتفاق التركي لتعارضه مع حدودها البحرية، والتقارب الأخير مع أنقرة، خاصة بعد اكتشافات الغاز في منطقة شروق المشتركة.
توظيف الانقسام الليبي كأداة دولية:
حكومة طرابلس المدعومة من تركيا تتمسك بالاتفاق البحري مع أنقرة، بينما حكومة الشرق تتحالف مع روسيا ومصر. هذا الانقسام يُفقد ليبيا وحدة القرار ويجعلها ساحة تنازع دولي، فتُبرم اتفاقات من طرف دون موافقة الطرف الآخر. ما يجعل الدعوة اليونانية، رغم طابعها القانوني، تصطدم بعقبة جوهرية: غياب سيادة موحدة في ليبيا.
المحرك الأساسي للنزاع يكمن في وجود ثروات هائلة من الغاز تحت قاع المتوسط، ما يجعل المشهد أكثر تعقيدا، حيث تسعى تركيا لضمان حصة عبر الاتفاقيات مع ليبيا، بينما تسعى اليونان لمنع هذا التوسع عبر تحالفات مع مصر وكيان يهود وقبرص. أما ملف الهجرة فقد وظفته أثينا كورقة ضغط، إذ تستخدمه لتبرير تعزيز حضورها البحري والعسكري في الجنوب. من جهة أخرى، تلوح تركيا باستخدام القواعد العسكرية الليبية كورقة ضغط، بينما تلجأ أوروبا لفرض عقوبات سياسية واقتصادية. وهكذا تتشابك ملفات الاقتصاد والسيادة والهجرة في معركة النفوذ بالمنطقة.
استراتيجيات المواجهة في المتوسط: بين العسكرة التركية والضغط الأوروبي:
تعتمد تركيا على نهج مزدوج في مواجهة النزاع البحري، عسكرياً بنشر سفنها الحربية لحماية عمليات التنقيب، وتستغل قواعدها في غرب ليبيا كقاعدة الوطية لفرض الأمر الواقع، ودبلوماسياً من خلال التلويح بتأجيل مصادقة البرلمان الليبي على الاتفاقية لابتزاز أوروبا، مستغلةً ملفات حساسة كالهجرة والجمارك.
في المقابل، تسعى اليونان لتحويل الصراع إلى معركة أوروبية موحدة، عبر تصوير الاتفاق التركي الليبي كتهديد للأمن الجماعي لجذب دعم الناتو والاتحاد الأوروبي، وتوظيف أزمة الهجرة من ليبيا إلى جزرها مثل جزيرة كريت كذريعة لتعزيز وجودها البحري العسكري.
أما السيناريوهات المحتملة فتتجه نحو ثلاثة مسارات مختلفة؛ إما التصعيد العسكري حال مصادقة البرلمان الليبي على الاتفاقية، وهو ما قد يدفع اليونان لردّ مدعوم بحلف الناتو، أو تقسيم النفوذ عبر مفاوضات ثلاثية (تركيا، اليونان، ليبيا) بوساطة أممية، تضمن حصصاً في ثروات المتوسط، أو استمرار الجمود بسبب الانقسام الليبي الداخلي وعجز القوى الدولية عن فرض حلٍّ نهائي.
من هنا يتبين أن الحدث الليبي-اليوناني ليس مجرد نزاع حدودي، بل هو تجسيد لصراع جيوسياسي أوسع، حيث تُعيد القوى الكبرى تشكيل تحالفاتها في فراغ السلطة الليبي، مستعينة بإرث التاريخ وثروات المستقبل. وسيكون لتركيا الدور المركزي في مقاومة أي محاولة لتقويض اتفاقية عام 2019 أو تقليص نفوذها في ليبيا وشرق المتوسط. بل قد تضغط على ليبيا أو تقدم وعوداً وتهديدات للحفاظ على الوضع القائم.
ختاما، يبقى الرقص على القانون الدولي غير ذي جدوى، إذ سيُحدث صراعات جانبية وتنازعاً على مصالح وطنية ضيقة، ما يعزز انقسام دول المنطقة ضمن فلك القوى الكبرى المسيطرة في العالم، في حين يكتوي المسلمون بدرجة أولى بنار هذا القانون الدولي، الذي في ظلّه عاشت البشرية حربين عالمتين مدمرتين، والذي كرّس تاريخيا هيمنة الدول الكبرى على المسلمين، وتتعارض قوانينه مع أحكام الإسلام جملة وتفصيلا، بل كان وراء جلّ مصائبنا في العصر الحديث من إسقاط الخلافة إلى تقسيم بلاد المسلمين إلى زرع كيان يهود في قلب الأمّة الإسلامية، إلى ما يحدث الآن في غزة والسودان وغيرهما من بلاد المسلمين. فالقطع مع هذا النظام الجائر لا يكون إلا بإقامة دولة الخلافة التي ستستأنف الحياة الإسلامية فتفرض واقعا دوليا جديدا، وتسترد الأمّة حقها الشرعي والتاريخي لكل شبر في البحر والأرض والجو خضع يوما ما لسلطان الإسلام، وستعمل دولة الخلافة منذ قيامها على تركيز أعراف دولية ترتقي بالبشر وتنتصر للمظلوم وتضع حدا للاستعمار ونهب الثروات والتحايل على الشعوب المستضعفة في العالم، ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾.
بقلم: الأستاذ ياسين بن يحيى