يعود اهتمام الحكومات الأمريكية بفنزويلا إلى بدايات القرن العشرين وذلك منذ اكتشاف النفط فيها بكميات ضخمة، حيث سيطرت شركات الطاقة الأمريكية على النفط لعقود طويلة، إلا أن الحكومة الفنزويلية أممته عام 1976.
وقد عانت فنزويلا تدهوراً اقتصادياً كبيراً وعدم استقرار سياسي إلى أن وصل سدة الحكم هوغو شافيز عام 1998، واقتربت فنزويلا من روسيا والصين وإيران، واتبعت سياسات اشتراكية يسارية حتى وفاته عام 2013. وخلفه نيكولاس مادورو، الذي اتبع نهج شافيز الاشتراكي نفسه، فزاد الاقتصاد تدهورا وزادت عزلة فنزويلا، حيث فرضت أمريكا العديد من العقوبات عليها ورفضت الاعتراف بشرعية انتخاباتها الرئاسية، وفي عام 2020 اتهمت وزارة العدل الأمريكية الرئيس مادورو بتجارة المخدرات وتهريبها إلى أمريكا.
وتعد فنزويلا من أغنى دول العالم بالثروات الطبيعية، إذ تحتل المرتبة الأولى عالميا في احتياطيات النفط التي تقدر بأكثر من 300 مليار برميل، كما تمتلك رابع أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي في العالم بأكثر من 195 تريليون قدم مكعب.
وقد قامت أمريكا خلال الشهور الأخيرة بالتصعيد ضد فنزويلا بذريعة الحرب على تجارة المخدرات التي تصل إليها، فقد قامت في ٩ آب/أغسطس الماضي بنشر ثلاث مدمرات قبالة سواحل فنزويلا، وفي الثاني من أيلول/سبتمبر، نفذت أول ضربة جوية ضد ما ادعت أنه سفينة لنقل المخدرات آتية من فنزويلا. وفي الثالث من تشرين الأول/أكتوبر صرّح وزير الحرب الأمريكي قائلاً: إنه أمر بشن ضربة على قارب ينقل المخدرات قبالة السواحل نفسها، أما رئيسه ترامب فقال، إنه سمح لوكالة الاستخبارات الأمريكية (سي آي إيه) بإجراء ما سماها "عمليات سرية" داخل فنزويلا. وفي المجمل، أعلنت السلطات الأمريكية مسؤوليتها عن 15 هجوما خلال الأسابيع الأخيرة، أفادت الأخبار أنها أسفرت عن مقتل 62 شخصا.
وقد نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية أن بعض المسؤولين صرحوا بشكل خاص لها قائلين، إن الهدف من وراء كل ذلك هو إسقاط الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، أما رسمياً فتكتفي أمريكا بالقول، إن عملياتها تستهدف ملاحقة عصابات إرهابية لاتينية تعمل في مجال المخدرات، التي قد تكون متوجهة إلى الحدود الأمريكية.
والذي يبدو أن أمريكا بقيادة ترامب تسعى للسيطرة على موارد فنزويلا الطبيعية الضخمة جدا، خاصة النفط والغاز الطبيعي والذهب والمعادن النادرة. وما يزيد الأمور توترا هي علاقات فنزويلا التجارية مع الصين وروسيا حيث بلغ حجم التجارة بين الصين وفنزويلا 6.5 مليار دولار سنة ٢٠٢٤ ولا تزال النسبة في ازدياد، الأمر الذي يرفع ضغط أمريكا ويجعلها أكثر عدائية نحو هذا التقارب، ففنزويلا وغيرها من دول أمريكا اللاتينية تعتبرها أمريكا حديقتها الخلفية وأنها هي صاحبة الحق في امتلاك ثرواتها، وأن أي اقتراب منها يعد خطاً أحمر يستدعي إثارة الحروب كما فعلت في اجتياح بنما سنة ١٩٨٩ واعتقال رئيسها نورييغا بتهمة الاتجار بالمخدرات، وتغيير النظام في البلاد بما يتوافق مع مصالحها.
إن ما نسمعه من تضارب تصريحات ساسة أمريكا اليوم حول عملية عسكرية في فنزويلا يشي بأن هناك تخطيطاً لتغيير النظام في فنزويلا بإحدى سيناريوهات ثلاثة:
أولها: قيام تمرد داخلي بقيادة الجيش، أو بقيادة مدنية، أو بتعاون بينهما على أن توفر واشنطن الدعم اللوجستي والاستخباراتي أو حتى الدعم العسكري المباشر من خلال قواتها الحالية في البحر الكاريبي. ومن غير المرجح حدوث هذا السيناريو بسبب انقسام المعارضة وضعفها، بجانب قوة الأجهزة الأمنية الاستخباراتية في الحكومة الفنزويلية.
ثانيها: قوة عسكرية مباشرة ساحقة، تشمل ضرب المنشآت العسكرية الفنزويلية بشكل مكثف، مع احتمال تكليف وحدات القوات الخاصة بالقبض على الرئيس مادورو ومحاكمته، وفي الوقت نفسه، تهيئة الأجواء لعملاء أمريكا من المعارضة التي ظهرت قوتها مؤخرا بعد فوز زعيمة المعارضة الفنزويلية ماتشادو بجائزة نوبل للسلام والتي طالب المجتمع الدولي بالتضامن معها، وهو ما يتبناه الإعلام الغربي والأمريكي بشكل خاص، والذي يراه أصحاب هذا التوجه أن الضربة قد تحدث انقسامات في بنية النظام، أو تململ بعض العسكريين، ما يجعلهم ينأون بأنفسهم عن النظام المتهالك.
ثالثها: الضغط السياسي، بأن يعلن ترامب النصر بعد سلسلة الضربات البحرية، ثم يعود إلى القنوات الدبلوماسية لإخضاع فنزويلا في مجالات الطاقة والهجرة والأمن الإقليمي وتوقيع صفقات تعاون اقتصادي والسيطرة على موارد البلاد، ومن ثم دخول البلاد في عملية انتخابية تضمن أمريكا من خلالها وصول المعارضة إلى الحكم. والذي يبدو أن هذا هو أقرب السيناريوهات للتحقق، حيث طبيعة ترامب (المفاوض التجاري) والذي يحاول إظهار نفسه على أنه رجل السلام، ويسعى للحصول على جائزة نوبل للسلام.
والذي يؤكد هذا التوجه ما ورد على لسان ترامب نفسه يوم ٣٠/١٠/٢٠٢٥ أنه لا يفكر في توجيه ضربات إلى فنزويلا حيث أجاب عندما سأله صحفي على متن الطائرة الرئاسية عن التقارير التي تتحدث عن أنه يعتزم شنّ ضربات على فنزويلا، قائلا "لا". علاوة على ذلك فإن مادورو نفسه عرض تسليم موارد النفط مقابل وقف التصعيد، إلا أن ترامب رفض العرض. ما يعني أن فنزويلا تخشى تدخل أمريكا المباشر وتفضل حل الأزمة بالتفاوض.
إن اللافت للنظر في هذه الأزمة وغيرها من الأزمات التي افتعلتها أمريكا لاحقا مثل ضم كندا أو شراء غرينلاند أو وضع يدها على غزة، أن هذه الدولة تتصرف بعنجهية وبلطجة غير مسبوقة، وليس هذا من مظاهر القوة بل هو علامة على ضعفها وخيبتها كما وصف المفكر الفرنسي إيمانويل تود في كتابه "ما بعد الإمبراطورية": (إن أمريكا تستخدم العنف المفرط لإخفاء ضعفها، وليس للتعبير عن قوتها). قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾.
بقلم: الأستاذ خالد علي – أمريكا






















رأيك في الموضوع