يكرس المستعمر الكافر في وسائل إعلامه المباشرة والإعلام العميل في بلاد المسلمين، أكذوبة مطلب "السلام والاستقرار العالمي"، بحيث يتوهم السامع أن سياسيي العالم يسعون لتحقيق هذه الغاية حقناً لدماء الأبرياء وحرصا على رخاء الشعوب، وبالطبع يقوم الحكام العملاء في بلادنا بدورهم في اجترار عبارات الغرب ومفرداته، فتجدهم في كل مناسبة يتشدقون بحرصهم على تحقيق السلام وتأمين الاستقرار ونبذ ومحاربة الجهات المارقة، التي تسعى لإشعال المنطقة بالحروب، بل حتى حين يذلهم كيان يهود بعدوانه بين الحين والآخر يتباكون أمام الصنم الأمريكي بأن فعل يهود يقوض السلام ويهدد الاستقرار!
وكل من له ذرة بصيرة يدرك أن الغرب الكافر المستعمر يستخدم عبارات السلام والاستقرار سيفا مسلطا على الأمم التي يسعى حثيثا في مص دمائها ونهب ثرواتها، وذلك لمنعها من مجابهة ظلمه ونهبه لها وعدوانه عليها، بينما يقوم هو عادة بالغزو واجتراح الحروب المدمرة إن كان ذلك يحقق له مصالحه، وليذهب آنذاك السلام والاستقرار المزعوم إلى الجحيم!
بقيت مسألة مهمة وهي بدعة طلع علينا بها تجار الدين وأبواق السلاطين، تزعم بأن الإسلام هو دين السلام، ومن مقاصده وغاياته السلام، وأنه حريص على السلام والاستقرار والهدوء مع كل شعوب العالم، وأن سياسة بلادنا يجب أن تنغمس في تحقيق هذه الغاية، وأن كل من يسعى لزعزعة الاستقرار هو "إرهابي" مخالف لأحكام الإسلام ويخدم أجندات مشبوهة، معادية للإنسانية والأديان وعلى رأسها الإسلام!
ومع كون هذه التصريحات واضح فيها خدمة مشاريع الكفار والحرص على استقرار هيمنتهم على مقدرات بلادنا وتثبيت سيطرتهم علينا، إلا أنه من الضروري الملح أن يفهم المسلمون وعلى رأسهم العاملون في الحقل الإسلامي حقيقة دينهم وأصول شريعتهم، بحيث لا تمرر مفردات ومصطلحات من بين أيديهم تحمل معاني باطلة ومغلوطة تشوه حقيقة التشريع الإسلامي وغايته، ولذلك وجب الوقوف على الحقائق التالية:
إن مدار كل أحكام الشريعة هو على تحقيق غاية أساسية وهي إحقاق الحق وإبطال الباطل، ولو احتاج الأمر إلى مصارعة أهل الباطل بالقوة المادية، أي بالجهاد والقتال، ولو ترتب على ذلك ارتقاء الشهداء منا وسقوط القتلى منهم، ولو أدى ذلك إلى إنفاق الأموال الطائلة على القتال واحتياجاته، وقد جعل الله في ذلك الأجر العظيم فأثنى على المجاهدين ثناء عظيما ووعدهم بالفردوس الأعلى، فليس الهدوء والسلام والاستقرار مطلبا وغاية لذاته في الإسلام، بل الغاية هي نصرة الحق والعدل لأن العدل هو إعطاء كل ذي حق حقه.
وحق الله على عباده أن يُعبد في أرضه ولا يشرك به شيءٌ، لذلك قال تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾، وحقه أن تكون كلمته هي العليا وشريعته هي المهيمنة وأحكام دينه هي النافذة، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾، فواضح من ذكره كره المشركين أنهم سيواجهون علو الشرع والدين وظهوره بالقوة المادية، وإن ذلك يتناقض مع حالة السلام والاستقرار التي يتشدق بها المدلسون، قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾، فقد دبر الله اللقاء والقتال في معركة بدر ليقطع دابر الكافرين ويحق الحق ويزهق الباطل، وقال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾، والنص صريح في أن سنة الله أن يدفع الكفار والظالمون بقوة أهل الحق والعدل والتوحيد ولولا ذلك لهدمت بيوت العبادة ولساد الكفر والظلم والباطل.
وقال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، وهو كلام واضح بجعل الغاية المقصودة للإسلام هي منع فتنة الناس عن دينهم الحق وتحقيق هيمنة "الدين الحق" على العقائد والشرائع الباطلة، وجعل كيفية ذلك وطريق تحقيقه القتال والجهاد وهو نقيض السلام والاستقرار.
وقد أخبر الله أنه سيمتحننا بالجهاد والقتال مع كون النفس تكره القتل وإنفاق المال في آلات الخراب والتدمير وبيّن أنه تعالى يعلم الخير ومكامنه وأننا لا نعلم وإن توهمنا ذلك فقال سبحانه: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾
فالآية تُفهم من شاء أن يفهم بأن غاية إحقاق الحق ورفع الظلم ونصرة الشرع مقدمة على الألم والمعاناة، بل إن كل التضحيات تهون في سبيل تحقيق تلك الغاية وما يترتب على الجهاد من شهادة وقتلى في صفوف المسلمين إنما هو تدبير من الله يرفع به درجات من يشاء ويختار.
كما جاءت النصوص تحث المسلمين على الجهاد لنصرة الدين ورفع الظلم عن المستضعفين أينما كانوا، قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً﴾.
بل حث القرآن المسلمين على عدم مبادأة الكفار المحاربين بالدعوة للسلام لأن في ذلك نوعاً من الوهن أمام الباطل وأهله، قال تعالى: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾، فإن بادروا هم بالصلح ننظر إلى مقتضى الأمر بما يخدم الحق ونقبله أو نرده وفق هذه القاعدة.
وعليه فليس السلام والاستقرار هدفا من أهداف الإسلام بل غاية الإسلام هي إحقاق الحق ورفع الظلم ولو سالت لأجل ذلك الدماء وأنفقت في سبيله الأموال، والواجب اليوم على الأمة أن تبذل الغالي والنفيس لعودة دولتها وكيانها التنفيذي "الخلافة" التي تجمع جهود الأمة وتحشد طاقاتها لإحقاق الحق وإبطال الباطل.
بقلم: الشيخ عدنان مزيان
عضو المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير