يتساءل كثيرون هل أمة الإسلام اليوم أمة واحدة أم أمم متفرقة؟ وإن كانت أمة واحدة فكيف نفسر هذا التفرق والتشرذم في المواقف من القضايا المصيرية، خاصة في مواجهة أعدائها الذين يسفكون دماء أبنائها كل يوم دون رحمة؟
والحقيقة أن المسلمين كانوا وما زالوا وسيبقون أمة واحدة من دون الناس كما كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وثيقة المدينة: «بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ ﷺ، بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ، فَلَحِقَ بِهِمْ، وَجَاهَدَ مَعَهُمْ، إنّهُمْ أُمّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النّاسِ... وَإِنّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدَةٌ، لَا يُسَالَمُ مُؤْمِنٌ دُونَ مُؤْمِنٍ فِي قِتَالٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، إلّا عَلَى سَوَاءٍ وَعَدْلٍ بَيْنَهُمْ».
مجددا لا شك أن الأمة الإسلامية كانت وما زالت أمة واحدة ووحدتها بوحدة الأساس الذي قامت عليه وهو الإسلام عقيدة وشريعة، فمن حمل عقيدة الإسلام ورضي بشريعته فهو جزء من هذه الأمة الواحدة.
وقد حذر الله تعالى المسلمين أن يخرجوا من دين الإسلام وأن يتبعوا سبلا غير سبيل الإسلام فقال: ﴿وَأَنَّ هذَا صِراطِيْ مُسْتَقِيماً فَاتَّبـِعُوه وَلاَ تَتَّبـِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بـِكُمْ عَنْ سَبِيلِه ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بـِه لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
ولكن المشكلة التي تواجهها الأمة اليوم من تمزق وتفرق مردّها لأمر آخر غير وحدة دينها، فنحن ينقصنا اليوم أن نكون جماعة واحدة على إمام واحد وهو ما يعرف بالوحدة السياسية، فنحن وإن كنا أمة واحدة لكننا لسنا جماعة واحدة، وهذا تقصير عظيم في أمر عظيم، فقد حذرنا الإسلام من التفرقة السياسية والتنازع والتناحر، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾. ذكر ابن كثير في تفسير قوله ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾: أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة.
وقال تعالى: ﴿وَلاَ تَنَازَعُوْا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيْحُكُمْ﴾، وأي تنازع وفشل أعظم مما عليه المسلمون اليوم؟! فقد تفرقنا في كيانات سياسية علمانية هزيلة يحكمها رويبضات يخدمون أعداء الإسلام، فيحاربون شريعتنا ويحرفون أصولنا ما استطاعوا، ويهدرون طاقاتنا ويبددون ثرواتنا ويمنعون أسباب عزتنا، ويكرسون تمزيق قوتنا ومنع اجتماعنا وجماعتنا.
وقد أمر النبي ﷺ أن يكون للمسلمين دولة واحدة وإمام واحد فقال: «كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأنْبِيَاءُ، كُلَّما هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وإنَّه لا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ فَتَكْثُرُ»، قالوا: فَما تَأْمُرُنَا؟ قالَ: «فُوا ببَيْعَةِ الأوَّلِ، فَالأوَّلِ، وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فإنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ»، ومن عظيم أهمية هذا الفرض فقد أمر النبي بقتل من يسعى لتفريق وحدة المسلمين السياسية، قال ﷺ: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوه»، وقال: «فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ، فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِناً مَنْ كَانَ» وقال: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا»، والأمر بقتل مسلم وإهدار دمه دليل على وجود مطلب شرعي يراد تحقيقه والحفاظ عليه هو أعظم بكثير من حرمة دم ذلك المسلم، فدل هذا على وجوب وحدة الأمة السياسية على إمام واحد يكون المسلمون من ورائه جماعة واحدة.
وقال رسول الله ﷺ: «مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ»، وقال ﷺ: «مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»، وكل ذلك دليل على عظيم حرمة فرقة المسلمين السياسية وخطرِ ذلك على الأمة، وهو ما فهمه الصحابة الكرام وأجمعوا عليه، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خَطَبَنَا عمر بـ"الجابية" فقال: "يا أيها الناس! إنيّ قمتُ فيكم كمقام رسول الله ﷺ فينا، فقال: «عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ».
وروي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (يا معشر العرب! الأرض الأرض، إنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة، ألا فمن سوده قومه على فقه كان ذلك خيرا له، ومن سوده قومه على غير فقه كان ذلك هلاكا له ولمن اتبعه).
ومن كل ما سبق ندرك أن ما تحتاجه الأمة اليوم هو الدولة الواحدة والإمام الواحد، الذي تقاتل من ورائه وتتقي به ويدفع عنها ظلم أعدائها، ويوحد عملها وسياستها بتطبيق الإسلام كاملا في الداخل وحمله رسالة عالمية إلى الخارج بالدعوة والجهاد، وأن وحدة الأمة على العقيدة والشريعة لا تكفي، بل لا تغني عن وحدتها السياسية وجماعتها على خليفة واحد، فمفهوم وجوب الجماعة اليوم مغيب عن كثير من الخاصة والمثقفين فضلا عن العامة، بل هو محارب من بعض أصحاب العمم والشهادات الشرعية خدمة لأولياء نعمهم، وواجب الساعة هو الاستعجال والتفاني في إعادة ترسيخه فكريا بين المسلمين تمهيدا لإعادته عمليا في أرض الواقع.
ولا شك أن العمل على وحدة الأمة السياسية وإعادتها جماعة من جديد كان ولا يزال أمرا محفوفا بالمخاطر والصعوبات، إلا أن طريق الألف ميل والذي يبدأ بخطوة قد طوت الأمة منه الكثير وليس عليها سوى الاستمرار بمزيد من ضخ عزائم العاملين وشحذ الهمم، وتحريك الماء كلما ركد، والإبداع الدائم في الوسائل والأساليب، لتحقيق الرأي العام على المشروع الإسلامي هذا، واستغلال طاقات المخلصين وتوجيهها نحو إقامة الخلافة الراشدة الثانية، في تحد لبطش الحكام الطغاة وأسيادهم المستعمرين، ومزيد من اختراق مراكز القوة في الأمة واستعادتها لصف الإسلام والمسلمين، والإبداع في تحقيق ذلك مهما كلف من تضحيات، ولتعلم الأمة عامة وحملة الدعوة خاصة، أن النصر مع الصبر وأن مع العسر يسرا، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.
بقلم: الشيخ عدنان مزيان
عضو المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير