أصدر العلماء المجتمعون في ضيافة أردوغان في ختام مؤتمرهم الذي أطلقوا عليه "غزة مسؤولية إسلامية وإنسانية" والذي انعقد في إسطنبول على مدار ستة أيام، بيانا ختاميا افتتحوه بآيات الإعداد والجهاد في سبيل الله حتى ظن من يقرؤه أن ما سيأتي بعد ذلك من فقرات وقرارات لن تكون إلا بيانا عمليا لكيفية الانخراط الفوري في جهاد لا يغيث غزة فحسب وإنما يحرر فلسطين والمسجد الأقصى. ولكن الحال كان خلاف ذلك، فجاءت القرارات والتوصيات والدعوات وكأنها كُتبت بلغة النظام الدولي موافقة للقانون الدولي وبما تنطق به الأنظمة الموالية لأمريكا والغرب وبما يمكن وصفه بأنه محاولة بائسة لغسل عار الحكام وعلى رأسهم أردوغان بعد تخاذلهم وتواطئهم عن نصرة غزة، وبعد حبسهم للأمة بكل وسيلة عن أداء واجبها.
وإننا لا نفتري على هؤلاء العلماء عندما نقول إننا لا ندري أيهما أشد خطرا: ما جاء في بيان إسطنبول أم ما غاب منه؟! ولتوضيح ذلك فإننا ومن باب قياس الأمر بنظيره نعقد هنا مقارنة بسيطة سريعة بين ما جاء في بيان إسطنبول وبين ما جاء قبله من فتاوى تحديدا منذ عملية طوفان الأقصى، أي على مدار العامين الأخيرين، وسنطلق عليها اختصارا "الفتاوى السابقة"، وهي فتاوى موثقة بهيئاتها وعلمائها وتواريخ إصدارها وقد نُشرت ووثقت وبالإمكان الرجوع إليها، وهذه مقارنة منصفة: فبمقابل بيان إسطنبول الصادر عن العلماء تلك أيضا فتاوى صادرة عن العلماء ولكن يُبنى عليها مواقف وأعمال مختلفة عما يمكن أن يبنى على بيان إسطنبول.
أما الفتاوى السابقة سواء التي جاءت بمبادرة من العلماء أو استجابة لدعوات واستغاثات واستنصار أهل غزة ومجاهديها الذين خاطبوا الأمة وجيوشها وعلماءها بالانخراط في معركة الطوفان لتكون معركة تحرير كامل، فقد جاءت تلك الفتاوى السابقة واستنادا إلى ما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ لتنص على وجوب تحريك الجيوش جهادا في سبيل الله لتحرير فلسطين تحريرا كاملا، وأن هذه الفريضة واجبة على أمة المسلمين جميعا، وأن أولى الناس بها هي الجيوش لما في أيديها من سلاح وقوة ولما في صفوفها من جند مدربين، ونصت فتاوى العلماء على حرمة طاعة العساكر لقادتهم في القعود عن ذلك، كما نصت بعض الفتاوى على وجوب الخروج على الحكام لما ثبت من تواطئهم وتخاذلهم وحبسهم للأمة عن نصرة غزة وتحرير فلسطين، ونصت الفتاوى على أن ما يقوم به الحكام وأعوانهم من تواطؤ وتخاذل يوجب غضب الله وعذابه في الدنيا والآخرة، وأن ذلك ينقض عرى الولاء والبراء، ودعا العلماء الأمة لاقتحام العوائق اقتحاما وجهادا في سبيل الله نصرة لغزة وأهلها وعدم انتظار الإذن من الحكام، ونصت على أن الدعوات الموجهة من العلماء للأنظمة والحكام إنما هي من باب المعذرة إلى الله وأن الحكام لن يفعلوا بعد كل هذا التواطؤ شيئا. هذا علاوة على ما تضمنته تلك الفتاوى من كلمات حق تقشعر لها أبدان المؤمنين من مثل أن الأمة وعلماءها لا يطيقون أن يقفوا بين يدي الله تعالى يوم القيامة خصماء لأهل غزة من المجاهدين والمرابطين، وأن الموت أهون عليهم من هذه الخصومة.
وبنظرة سريعة موجزة فإن ما يُبنى من أعمال على الفتاوى السابقة يدفع بالأمة إلى كسر قيدها والتخلص من حكامها واسترجاع السيطرة على قوتها وجيوشها والزحف لأداء واجبها والقيام بفرض ربها حتى تحرير فلسطين كلها رغم أنف الأنظمة وأعوانها.
أما بيان إسطنبول فقد خلا من هذه الدعوات كلها: فلا دعا إلى تحريك جيوش، ولا إلى زحف، ولا إلى كسر قيد الأمة من حكامها، ولا دعا حتى إلى تحرير فلسطين! وعوضا عن ذلك كله تبنى دعوات أردوغان لتشكيل تحالف إسلامي وصفه "بالإنساني" وحدد هدفه "بوقف العدوان وملاحقة المجرمين"! واسترسل بيان إسطنبول الذي افتُتِح بذكر "الصمت الدولي والتواطؤ الإقليمي" في توجيه الدعوات للمتواطئين من دول العالم ومن الدول القائمة في بلاد المسلمين، ودعا إلى ضرورة التواصل معها من أجل الضغط عليها لاتخاذ المواقف، ودعا كذلك إلى تحالف عالمي حقوقي وبرلماني، ودعا مؤسسات النصارى وعلى رأسهم بابا الفاتيكان، ودعا حتى مؤسسات اليهود لإنقاذ غزة!!! ودعا إلى تفعيل قرارات محكمة العدل الدولية والجنائية الدولية، بدلا من تطبيق شرع الله وحكمِه فيمن يحارب المسلمين ويغتصب أرضهم.
وأما بالنسبة للمسلمين فقد حصر بيان إسطنبول واجبهم في تخصيص التبرعات وشطر زكاة العام المقبل لإغاثة غزة وإعادة إعمارها بعد انتهاء الحرب بدل الدعوة إلى إعلان حرب التحرير، وعند حديثه عن فك الحصار حصر الدعوة بالوسائل المتاحة بما فيها دعم أسطول الحرية بالسفن بدلا من الدعوة لتسيير الأساطيل العسكرية والجيوش.
وقرن بيان إسطنبول بين الشريعة الإسلامية وبين القانون الدولي كمرجعية عند الدعوة إلى قطع العلاقات مع كيان يهود بدل الدعوة إلى استئصال الورم الخبيث. ثم بعد ذلك أكد على قدسية صنم الوطنية عندما حمّل مسؤولية مواجهة مخططات "إسرائيل الكبرى" حصرا للدول المستهدفة.
ثم ختم بيان إسطنبول بشهادة زور على رؤوس الأشهاد بالشكر والعرفان لأردوغان واصفا حكومته بالرشيدة.
وبهذا الاستعراض الموجز تتضح الأعمال التي يمكن أن تبنى على بيان إسطنبول، فهي لا تتجاوز جمع التبرعات وتوجيه الدعوات للأعداء لوقف الحرب، وهو فوق ذلك يبرئ الحكام والأنظمة من جريمة التواطؤ والتخاذل ويجعل تنفيذ قراراته ودعواته موكولا إلى هؤلاء الحكام رغم سطوع حقيقة تآمرهم وتواطئهم.
لقد كان جديرا "بعلماء إسطنبول" المنضوين تحت الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وتحت وقف علماء الإسلام في تركيا الذين اجتمعوا بالمئات على مائدة أردوغان أن تكون لهم مواقف عملية تجعل الأمة كلها وجيوشها تنخرط في عمل فوري لا يؤدي فقط إلى إغاثة غزة ووقف الحرب وإنما إلى تحرير سائر أرض فلسطين، وكان جديرا بهم أن تكون مواقفهم داعية إلى أن يترك الناس والجند أشغالهم عندما تنقل وسائل الإعلام بياناتهم في انتظار سماع التوجيهات العملية التي سيوجهون الأمة إليها، وكان جديرا بهم أن يحبس العالم أنفاسه وأن ترتعد فرائص الكفار جميعا لمجرد ذكر اجتماعهم، ولكنهم وا أسفاه أبوا أن يكونوا أهلا لذلك!
وأخيرا، فإن السؤالين اللذين يجدر طرحهما في ظل هذه المخرجات لمؤتمر إسطنبول، هما: هل حقا عُقِد هذا المؤتمر لنصرة غزة؟ أم أنه عُقِد لمحاولة إجهاض أي عمل ذي بال يمكن أن يُبنى على فتاوى العلماء السابقة؟؟
وبعد بيان إسطنبول ماذا تريدون أن يفهم عدونا اللئيم منا؟ مزيدا من القتل، والدمار، والأشلاء، والتهجير؟ هل سيفهم غير أن هذا أقصى ما يمكن لأمة المليارين أن تفعله أو حتى أن تفكر فيه؟!
بقلم: الأستاذ عبد الله حمد الوادي – الأرض المباركة (فلسطين)