عقد في ١٤/٠١/٢٠٢٠ مؤتمر في مدينة بو جنوب غرب فرنسا جمعت فيه فرنسا دول الساحل الأفريقية الخمس وهي تشاد والنيجر ومالي وموريتانيا وبوركينا فاسو للتباحث في أمر تفاقم الوضع الأمني في هذه الدول، لا سيما بعد مقتل ٨٩ جندياً من النيجر قبل أسبوع من عقد المؤتمر على أيدي مجموعات محلية جهادية مسلحة تكافح الوجود الفرنسي في أفريقيا، وكان قبل ذلك قتل سبعة عسكريين وخمسة وثلاثين مدنيا في بوركينا فاسو، فيما قتل لفرنسا ثلاثة عشر جنديا في مالي في أواخر سنة ٢٠١٩، في حين بلغ العدد الإجمالي لقتلى الجنود الفرنسيين في السنوات الأخيرة في منطقة الساحل والصحراء واحداً وأربعين جنديا.
ولفرنسا قوة عسكرية خاصة في هذه الدول الأفريقية تقوم بمساعدة الجيوش النظامية الضعيفة في مهمة مواجهة القوى الجهادية تحت اسم برخان مؤلفة من ٤٥٠٠ جندي.
إنّ مشاعر السخط لدى شعوب هذه البلدان بلغت أوجها من الاستعمار الفرنسي الطويل المتواصل لهذه الشعوب ونهب ثرواتها، وإنّ تنصيب حكام عملاء لها يقومون بوظيفة حفظ النفوذ الفرنسي في تلك البلدان المنكوبة يؤجّج تلك المشاعر ويزيدها غيظاً.
لقد خرجت مظاهرات صاخبة ضد فرنسا تطالبها بالخروج وإنهاء استعمارها فوراً، ففي العاصمة المالية باماكو خرج يوم الجمعة قبل المؤتمر المذكور قرابة الألف متظاهر وطالبوا برحيل القوات الفرنسية والأجنبية ورفعوا شعارات: فلتسقط فرنسا، برخان يجب أن تخرج، فرنسا تكبح تنميتنا.
وردّ الرئيس الفرنسي ماكرون على هذه التظاهرات الشعبية بغرور وصلف واستخفاف، ووصفها بأنها تافهة، واتهمها بأنّها تُعبّر عن مصالح قوى أجنبية أخرى - لم يسمها - لإبعاد الأوروبيين عن أفريقيا.
إنّ قوة فرنسا المسماة برخان ومعها قوات الدول الأفريقية التابعة لها تبدو عاجزة أمام تصاعد حدة الهجمات المسلحة في النيجر ومالي وبوركينا فاسو بشكل خاص، وإنّ مشكلة النازحين تفاقمت بسبب هذه الهجمات وبلغ عددهم مليون شخص في فترة وجيزة.
لقد شعرت فرنسا بخذلان أوروبا التي لم ترسل لها سوى القليل من الجنود، وخذلان أمريكا التي أعلنت أنّها تدرس مسألة تخفيض قواتها في أفريقيا، وهو ما جعل فرنسا تتوسل لأمريكا لعدم الخروج ولمساعدتها، فقال مسؤولون فرنسيون: "إنّ أمريكا لها مساهمات لا يمكن تعويضها في منطقة الساحل خصوصاً في مجال الاستطلاع والمعلومات الاستخبارية وتزويد الطائرات بالوقود جواً، ولن نتمكن من الحصول على هذه الأمور من شركاء آخرين"، ولذلك ففرنسا تتخوف من انسحاب أمريكا وتركها بمفردها في المنطقة، وهي تُخمّن أنّ أمريكا تُورطها في هذا الصراع، لذلك كانت المهمة الرئيسية لمؤتمر دول الساحل في فرنسا هي تجديد الشرعية للقوات الفرنسية ونيل الدعم الأمريكي والأوروبي والأمني.
ولفرنسا مصالح اقتصادية ضخمة في دول الساحل، فعشرون بالمائة من كهرباء فرنسا تؤخذ من اليورانيوم النيجري الذي يزود مفاعلاتها النووية بالطاقة، وخط الغاز الممتد من نيجيريا والنيجر والجزائر والذي يحمل ٣٠ مليار متر مكعب هو الذي يغذي فرنسا وأوروبا بالغاز الطبيعي.
وليست النيجر وهي ثالث أكبر مصدر لليورانيوم في العالم تسيطر عليه فرنسا وحسب، بل أيضا فإنّها تملك مناجم ذهب وفحم تسيطر عليها الشركات الفرنسية، وفيها حقول نفط منحت فرنسا بعضها لشركات أمريكية.
ومع كل هذا الغنى بالثروات الذي تعجّ به النيجر، تعتبر أفقر دولة في العالم، ولا يزيد دخل الفرد السنوي فيها عن ٣٧٨ دولاراً فقط، وهي دولة تفتقر إلى البنية التحتية، والحالة الصحية للناس فيها متدهورة بسبب هذا الاستعمار الفرنسي الجشع المجرم.
وفي تشاد ومالي المجاورتين للنيجر اكتشفت مناجم جديدة للذهب واليورانيوم والمعادن المختلفة والتي تمنح فرنسا بعض الامتيازات في تنقيبها لشركاتها وشركات بريطانية وأوروبية مختلفة ولا يتبقى لأهل البلاد إلا الفتات.
وأما موريتانيا فثروتها السمكية الضخمة لا ينال منها أهلها إلا القليل ومعظمها تذهب للأوروبيين بإدارة فرنسا، وأما بوركينا فاسو فهو بلد زراعي لديه ثروة حيوانية كبيرة بالإضافة إلى كونه مصدراً غنياً للقطن والمواد الغذائية كالذرة والفول السوداني يتحكم به أيضاً الاستعمار الفرنسي.
وتحدث قبل مدة نائب رئيس الوزراء الإيطالي عن الاستعمار الفرنسي الذي لم يخرج من أفريقيا بعد الاستقلال، وقال بأنّ سبب غنى فرنسا لا يكمن في إمكاناتها الذاتية، وإنّما يكمن في استيلائها على ثروات الأفارقة، وسيطرتها على مواردهم.
هذا هو باختصار سبب تشبث فرنسا بمستعمراتها الأفريقية لا سيما دول الساحل الصحراوية منها.