انطلقت في 11 أيلول/سبتمبر 2025 في قصر تشيراغان التاريخي بإسطنبول، أعمال "المائدة المستديرة الدولية حول غزة والمقدسات"، بمشاركة واسعة من قيادات دينية، وسياسية، وفكرية، من نحو 20 دولة، ما منح المؤتمر طابعاً دولياً. وقد حضر عن الجانب التركي رئيس حزب الهدى، زكريا يابيجي أوغلو، ورئيس حزب الرفاه الجديد، فاتح أربكان، إلى جانب رئيس الشؤون الدينية، علي أرباش، وعدد من كبار العلماء والمفكرين.
خصص اليوم الأول لثلاثة محاور رئيسية، ركزت على مراجعة اتفاقيات أبراهام، مقابل الدعوة إلى تعاون إبراهيمي حقيقي، وحماية المسجد الأقصى والمسجد الإبراهيمي، ومناقشة الوضع الإنساني المتفاقم في غزة. وسلطت المداخلات الضوء على انتهاكات يهود، ودعت إلى تعزيز التضامن الدولي، مع تحميل أمريكا مسؤولية التغطية السياسية لـكيان يهود، والدعوة إلى تدخل الأمم المتحدة لوقف الاعتداءات.
وأكد المشاركون أن المأساة الفلسطينية تهدد القيم الإنسانية، وأن مرحلة الاستنكار اللفظي انتهت، داعين إلى حماية المقدسات، وصون هوية القدس والخليل، وإنهاء الاحتلال، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وفق القرارات الدولية، ومبادرة السلام العربية. ولفتوا إلى أن الصمت الدولي يفاقم الأزمة، وأن استمرار العدوان، وغياب رد فعل حقيقي، يضاعف من معاناة المدنيين، مع إبراز وجود أصوات يهودية مناهضة لسياسات كيان يهود.
جاء في كتاب الدولة الإسلامية، للشيخ العلامة تقي الدين النبهاني رحمه الله ما يلي:
(...أخذ الاستعمار يصرف المسلمين عن التفكير بالدولة بأعمال تافهة يتلهون بها. فقد شجع المؤتمرات الإسلامية، لكي تكون ألهيات الأمة الإسلامية عن العمل الحقيقي للدعوة الإسلامية، ولاستئناف الحياة الإسلامية، في ظل الدولة الإسلامية، فكانت هذه المؤتمرات متنفساً للعواطف، وتتخذ القرارات وتنشرها بالصحف، ودور الإذاعة، لمجرد النشر دون أن ينفذ شيء منها، بل دون أن يسعى لتنفيذ شيء منها...).
فكانت مثل هذه المؤتمرات؛ مائدة مستديرة، هزيلة المواقف، وما زالوا يدورون في فلك الخطب المنمقة التي لا يتبعها عمل جاد يقطع شأفة يهود! فهذه أعمال لا تسمن ولا تغني من جوع، بل هي تخدم ذلك الكيان السرطاني المسخ المزروع في قلب الأمة.
ففيما يتعلق بالحرب الوحشية التي يشنها كيان يهود على غزة، وعدوانه المتواصل ليل نهار، اقتصرت مواقف هذه المائدة المستديرة كالعادة على التنديد والاستنكار، ودعوة النظام الدولي للتدخل، وكأن كيان يهود ومن ورائه أمريكا يأبهان بتنديدهم، أو صرخاتهم هذه! فكانوا كمن يقابل الآلة الحربية؛ من دبابات وطائرات وصواريخ، بأغصان الزيتون! فهو رسالة ليهود أنّه بإمكانهم مواصلة الإجرام والقصف والدمار، وأنهم لن يجدوا رداً سوى التنديد والاستنكار!
فظهر أن اجتماعهم هذا، هو روتين ممجوج، لا جديد فيه على صعيد نصرة المسلمين وقضاياهم، بل لم يكن متوقعا منهم غير هذا، فهؤلاء المشاركون قد أصبحت ورقتهم محروقة لدى الأمة، ولا خير يُرجى منهم.
إن هؤلاء الحكام هم من يحبسون الأمة وجيوشها عن التحرك لوضع حد لمآسي المسلمين، وعدوان يهود، ومن ورائهم حبال الغرب الكافر المستعمر، ويمكن أن نقول إن هذا المؤتمر هو حبل آخر يمد كيان يهود بسبب الحياة.
فلم يعد يخفى على كل ذي بصر وبصيرة، أن الحكام هم أهم ركائز الاستعمار في بلادنا، ولولاهم لتمكنت الأمة من دحر أعدائها وتحرير بلادها والعيش بعزة وكرامة، في ظل شرع ربها، وهذا ما نكرر دعوتنا إليه، بأن تغذ الأمة السير معنا لتخليصها من سبب هوانها وفرقتها وضعفها، وإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، التي فيها عزنا وبها نصرنا.
فمنذ هدم الخلافة تغيّر حال الأمة تغيراً جذرياً، ليس على مستوى المعيشة فحسب، ولا على مستوى العلاقات بين الدول، بل تغيّر حتى أسلوب التعامل مع القضايا المصيرية والطارئة. ففي سنوات ماضية، كانت ردود الفعل تحمل من العزة والكرامة، ما يُرهب الأعداء، حتى إن الأمم كانت تخشى بأس المسلمين، ولم يكن المسلمون يسكتون عن مظلمة ولو كانوا في أضعف أحوالهم، فكان أي اعتداء يُرتكب على مسلم تتحرك من أجله جيوش جرارة، لأن المفهوم آنذاك كان واضحاً؛ حرب المسلمين واحدة، وسلمهم واحدة، وعليه كان السلوك.
واليوم نقف على نقيض ذلك؛ فقد أصبحنا مُنحني الظهر، والجميع يسعى لأن يمتطينا! وقد انكشف ضعف ردّة الفعل تجاه التعديات كلها. فالمائدة المستديرة لم تأتِ إلا ببيان استنكار، فيما مشاهد الدماء والأشلاء لم تحرّك موقفاً جدياً، بل إن المجازر تقع والقادة مجتمعون، ومنهمكون في تمجيد بعضهم بعضا!
لقد اجتمعت مرارا وتكرارا هذه الجوقة نفسها، التي سلبت العزّة عن الأمة، وقد حُدّد سقف كلامها أن اشجبوا، واستنكروا، وافعلوا ما شئتم في حدود هذه المترادفات، لكن لا تتجاوزوا إلى ما يصنع الرجال. لقد جُرّب هؤلاء على مرّ عقود، فلم يقدروا على أكثر من ذلك.
إنّ العزّة لا تأتي من وكيلٍ، ولا من شغّيل، بل تأتي ممن أسلم وجهه لله، ويعمل بما أمره الله، وبنظام ارتضاه الله، فهي عزّة نابعة من فكرة مبدئية ربّانية، لا من أفكار مستوردة طفيلية أو علمانية دخيلة.
وما جرى، ويجري من تعدٍّ واعتداء لن يرده أمثال هؤلاء المجتمعين، ومعهم أصحاب الفخامة، فهؤلاء بعيدون كل البعد عن معنى العزة.
هذا الذل، والهوان والانكسار، لن يرفعه إلا دك هذه العروش، ومبايعة حاكم يحكم بأمر الله؛ خليفة راشد على منهاج النبوة، يقود الجيوش، فيكسر الدروع، ويضع المعتدين تحت سلطان الحق، وإنا لنرى ذلك كائن قريبا بإذن الله.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية السودان