منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تبوأ الدولار الأمريكي موقع العملة الاحتياطية الأولى في العالم، وارتبط اسمه بترسيخ النظام المالي الدولي وفق معايير اتفاقية بريتون وودز. أنهت الولايات المتحدة الأمريكية الاستناد إلى هذه الاتفاقية في أوائل السبعينات، وابتكرت ما عُرف لاحقاً بـالبترودولار بعد ربط تجارة النفط بالدولار، وهو ما ضمن استمرار الطلب العالمي عليه وعزّز موقعه كعملة تسويات دولية.
غير أن هذه المكانة لم تكن بمنأى عن الضغوط؛ فقد أدى التوسع الكبير في الإنفاق الحكومي وتضخم الدين العام - الذي تجاوز 34 تريليون دولار في 2024 - إلى زيادة القلق من هشاشة استدامة النموذج القائم. فقد أشارت مصادر إلى أن الدين العام قد بات يتجاوز الناتج المحلي، فمثلاً قاعدة بيانات الخزانة الأمريكية تفيد بأن متوسط الناتج المحلي الإجمالي لعام 2024 بلغ حوالي 28.83 تريليون دولار، في حين إن الدين الكلي وصل إلى حوالي 35.46 تريليون دولار، ما يعطي نسبة تقارب 123% دين إلى الدخل القومي.
وقد أظهر النظام المالي العالمي مراراً حدود اعتماده المفرط على الدولار. فعلى سبيل المثال، كشفت الأزمة المالية العالمية عام 2008 هشاشة الأسواق، ما دفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى تفعيل خطوط المبادلة (Swap Lines) مع بنوك مركزية في أوروبا وآسيا لتوفير سيولة دولارية عاجلة ومنع انهيار النظام المصرفي العالمي. (الاحتياطي الفيدرالي، 2009) الأمر ذاته تكرر خلال جائحة كورونا عام 2020، حيث أعاد الفيدرالي تفعيل هذه الآلية لضخ سيولة عبر أكثر من 14 بنكاً مركزياً حول العالم. (صندوق النقد الدولي، 2020)
في المقابل، تسعى الولايات المتحدة اليوم إلى تعزيز مرونة النظام النقدي عبر ثلاثة محاور رئيسية:
1- خطوط المبادلة للعملات (Swap Lines): أصبحت أداة استراتيجية للسياسة النقدية الدولية، ليس فقط لحماية الاقتصاد الأمريكي، بل أيضاً للحفاظ على الدولار كملاذ أخير للسيولة العالمية.
2- تشجيع بعض الشركاء التجاريين على التعامل بعملاتهم المحلية: وإن كان هذا الاتجاه يخفف نسبياً من ضغط الطلب المباشر على الدولار، إلا أنه يبقى تحت مظلة واشنطن بما لا يهدد مكانة الدولار فعلياً، خاصة أنه حتى عام 2023، 58% من الاحتياطيات العالمية ما زالت بالدولار. [IMF COFER, 2023]
3- العمل على تطوير الدولار الرقمي (CBDC): في ظل تسارع الصين في إطلاق "اليوان الرقمي"، والاتحاد الأوروبي في اختبار "اليورو الرقمي"، لا يمكن للولايات المتحدة تجاهل المخاطر المرتبطة بتأخرها في سباق العملات الرقمية السيادية. الاحتياطي الفيدرالي يدرس بالفعل إصدار "دولار رقمي" يتيح الحفاظ على الهيمنة الأمريكية في الاقتصاد الرقمي العالمي. (مجلس الاحتياطي الفيدرالي، 2022)
البديل الجذري:
يرى بعض المفكرين والاقتصاديين أن المخرج الحقيقي من عقدة الانهيارات المالية وتراجع الثقة في قيمة الدولار الورقية يكمن في العودة إلى قاعدة الذهب والفضة على المستوى الدولي، وإعادة ربط العملات بهذا المعيار كما كان معمولاً به عبر فترات طويلة من التاريخ الاقتصادي. هذا النظام وفّر استقراراً نسبياً للعملات العالمية، وحدّ من التضخم النقدي الذي يُعدّ أحد أبرز مسببات الأزمات والانهيارات المالية. فغياب قاعدة الذهب والفضة بعد سبعينات القرن الماضي فتح الباب أمام التوسع غير المنضبط في طباعة النقد، وهو ما جعل الاقتصاد العالمي أكثر عرضة لدورات الركود والانفجار المالي المتكرر.
هذه التحولات تعكس إدراك واشنطن أن هيمنة الدولار ليست قدراً محتوماً، بل تحتاج إلى إعادة إنتاج متواصلة بما يتناسب مع التغيرات الجيوسياسية والتكنولوجية. ورغم تعدد المبادرات الدولية لتقليص الاعتماد عليه، مثل اتفاقات البريكس للتجارة بالعملات المحلية أو توسيع استخدام اليوان الصيني، فإن النظام المالي العالمي ما زال، في لحظته الراهنة، يفتقر إلى بديل قادر على منافسة الدولار في العمق والسيولة والثقة المؤسسية.
بقلم: الأستاذ أبو عمر سامر دهشة