تشهد الساحة الأفريقية هذه الأيام تصاعداً جديداً للتوتر والاتهامات المتبادلة بين مصر وإثيوبيا على خلفية موجة الفيضانات التي اجتاحت مناطق واسعة في السودان وأجزاء من مصر، وما تلاها من اتهامات مصرية صريحة لإثيوبيا بالتسبب في هذه الفيضانات من خلال تشغيل أو تفريغ مياه سد النهضة بشكل أحادي ودون تنسيق، في الوقت الذي سارعت فيه إثيوبيا إلى نفي مسؤوليتها واعتبار الاتهامات "ادعاءات تشويهية"، مؤكدة أن السبب الرئيس هو الأمطار الموسمية الغزيرة في الهضبة الإثيوبية.
ورغم أن هذه التوترات تبدو في ظاهرها خلافاً فنياً أو نزاعاً على إدارة الموارد المائية، إلا أن حقيقتها أعمق من ذلك بكثير، فهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالصراع الدولي في أفريقيا، وبالهيمنة الأمريكية على القرار في هذه المنطقة الحساسة من البلاد الإسلامية، كما ترتبط بتفريط حكام مصر والسودان في مسؤولياتهم تجاه شعوبهم، وابتعادهم عن أحكام الإسلام في إدارة شؤونهم.
سد النهضة ليس مجرد مشروع لتوليد الكهرباء أو خزان مائي ضخم، بل هو سلاح استراتيجي بيد من يتحكم به. فهو بسعته الضخمة التي تبلغ نحو 74 مليار متر مكعب يمكنه أن يتحكم في نهر النيل شريان الحياة لمصر والسودان. وهذا ما جعل الخبراء يؤكدون أن من يملك قرار التشغيل والتحكم في السد يمكنه أن يصيب مصر والسودان بالعطش أو الفيضانات.
لقد تم بناء السد برعاية أمريكية واضحة منذ بداياته، فأمريكا هي التي رعت المفاوضات في مراحل عدة، وهي التي منعت صدور أي قرار دولي ملزم لإثيوبيا، وهي التي وفّرت الغطاء السياسي والدبلوماسي لهذا المشروع ليصل إلى مرحلته النهائية دون أن تستطيع مصر أو السودان أن توقفه أو تفرض شروطها، رغم أن كليهما دولتان متأثرتان مباشرةً بالسد. وبذلك صار السد ورقة ضغط بيد أمريكا توظفها لضبط سلوك الشعوب في مصر والسودان وإثيوبيا قبل الأنظمة، ولإحكام قبضتها على واحد من أهم الأنهار في العالم.
من يتابع الموقف الرسمي للدول الثلاث يدرك بوضوح أنها لا تتحرك وفق مصلحة شعوبها، بل وفق ما ترسمه لها القوى الكبرى وعلى رأسها أمريكا. فالنظام الإثيوبي، وإن أظهر في بعض المراحل شيئاً من التحدي للضغوط، إلا أنه في النهاية يسير وفق خطط واشنطن، ويُستخدم لتحقيق مصالحها الإقليمية، ومنها تطويق مصر وإضعافها استراتيجياً عبر التحكم في مصدر حياتها المائية.
أما النظام المصري، فرغم أنه يُظهر امتعاضاً إعلامياً ويصدر بيانات غاضبة، إلا أنه عمليا لم يتخذ أي خطوة جادة، لا في مرحلة بناء السد ولا في مراحل التعبئة المتتالية ولا حتى بعد تشغيله بالكامل. بل لقد أعطاهم ما جعلهم في موضع قوة بموافقته على اتفاق إعلان المبادئ في آذار/مارس 2015 في الخرطوم، الذي اعترف لأول مرة بشرعية بناء السد، وأعطى إثيوبيا الغطاء القانوني والدولي اللازم. وظل يراهن على المفاوضات العبثية والوساطات الدولية التي ترعاها القوى نفسها التي ترعى السد وتؤمّن استمراره. وهذا الموقف ليس ناتجاً عن ضعف في الإمكانات، بل عن تبعية سياسية كاملة لأمريكا.
أما النظام السوداني فقد تحوّل إلى ساحة صراع دولي، ولم يعد يملك قراراً سيادياً حقيقياً، ما جعله يتأرجح بين دعم إثيوبيا أحياناً والتذمر منها أحياناً أخرى، دون أن يكون له موقف مبدئي أو إرادة سياسية مستقلة.
لقد شهدت السودان خلال الأسابيع الماضية فيضانات واسعة تسببت في نزوح آلاف الأسر، ودمرت مساحات من الأراضي الزراعية والبنية التحتية، كما تضررت بعض المناطق في مصر نتيجة ارتفاع مفاجئ في منسوب النيل. وتؤكد مصر أن هذه الفيضانات نتيجة تصريف إثيوبي غير منسق للمياه من السد، في حين ترد إثيوبيا بأن السبب هو الأمطار الموسمية.
وبغضّ النظر عن الجدل الفني، فإن الواقع المؤلم هو أن قرار فتح أو إغلاق بوابات السد أصبح قراراً سيادياً إثيوبياً خاضعاً للتوجيه الأمريكي، ويمكن أن يُستخدم في أي لحظة كورقة ضغط سياسية واقتصادية ضد مصر والسودان. فكما يمكن أن يؤدي تشغيل السد بطريقة غير منسقة إلى فيضانات مدمرة، فإن حجبه للمياه في أوقات الجفاف قد يؤدي إلى كارثة عطش كبرى تهدد ملايين البشر.
إن ما يجب على مصر، ليس الاستجداء السياسي ولا الارتماء في أحضان الوسطاء الدوليين، بل اتخاذ موقف سيادي حقيقي يستند إلى واجب رعاية شؤون الناس الذي أوجبه الإسلام على الدولة. وهذه الرعاية تشمل حماية أمنهم المائي والغذائي، والدفاع عن مقدراتهم الحيوية بكل الوسائل المشروعة، لا تركها رهينةً بيد دولة أخرى أو قوى كبرى.
الواجب على النظام في مصر أن يقطع فوراً المفاوضات العبثية التي لم تزد الوضع إلا سوءاً، وأن يتخذ موقفاً عملياً لمنع أي تهديد مائي لأهل مصر والسودان، لأن الماء ليس ملفاً تفاوضياً بل قضية حياة أو موت. كما يجب عليه أن يكشف التدخل الأمريكي الماكر في هذا الملف، وألا يجعل من واشنطن وسيطاً، بل أن يتعامل معها بوصفها رأس الأفعى التي تدير هذا الملف لخدمة مصالحها لا مصالح شعوب المنطقة.
أما الحل الجذري فلا يمكن أن يتحقق في ظل هذه الأنظمة التابعة المتفرقة، بل لا بد من إقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي تجمع بلاد المسلمين تحت قيادة واحدة، وتوحّد مواردهم وقوتهم، وتدير أنهارهم وسدودهم بما يحقق مصلحة الأمة لا مصلحة المستعمر.
ففي ظل الخلافة، لا يمكن أن يُسمح لدولة أخرى أن تضع يدها على نهر يمر ببلاد الإسلام وتتحكم فيه، بل يُدار النهر كملكية عامة لجميع المسلمين، ولا يحق لأي طرف أن يحتجز مياهه أو يستخدمه للابتزاز. وإذا تجرأ طرف خارجي أو عميل على تهديد الأمة بمصدر حياتها، فإن الخلافة تتخذ من الإجراءات ما يحمي مصالح المسلمين ولو بالقوة، لأن حماية الأمة واجب شرعي لا مساومة فيه. قال ﷺ: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ»، فالنيل ملكية عامة للأمة الإسلامية، لا يحق لأمريكا أن تتحكم به، ولا لإثيوبيا أن تستخدمه سلاحاً، ولا لمصر أن تفاوض على نصيبها منه كما لو كان هبة.
إن المشكلة الحقيقية ليست في جدران سد النهضة ولا في بواباته، بل في الأنظمة التي تحكم بلاد المسلمين اليوم. فلو كانت في مصر دولة مخلصة ذات إرادة حرة تطبق الإسلام وترعى شؤون الأمة، لما سمحت ببناء هذا السد من الأساس، ولما تركت الأمر ليكون ورقة ضغط أمريكية موجهة ضد شعوبنا.
إن الواجب على أهل مصر والسودان وسائر الأمة الإسلامية وخاصة جيوشها أن يعملوا على إقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، التي توحّد بلاد المسلمين وتحرر قرارهم السياسي والاقتصادي، وتعيد إدارة مواردهم وفق أحكام الإسلام، لتُستعمل هذه الموارد في خدمة الأمة لا في تهديدها.
بقلم: الأستاذ محمود الليثي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية مصر