أعلن جيش كيان يهود عن سحب جميع قواته البرية من جنوب قطاع غزة، بما فيها الفرقة 98 بألويتها الثلاثة من منطقة خان يونس بعد قتال دام 4 أشهر، حيث لم يتبق في غزة سوى لواء واحد "ناحال" لفصل الشمال عن الوسط، ولاستمرار بعض العمليات في القطاع.
إن انسحاب جيش الكيان من قطاع غزة إنما يفهم في سياق سياسة حكومة الكيان ورؤيتها للحرب، فبالإضافة إلى التأييد الذي توفر للحرب من قبل جمهور واسع من الكيان وسياسييه، وحتى من المعارضة، فقد اتخذت هذه الحكومة، حكومة نتنياهو، من الحرب وتوسيعها وسيلة لإطالة أمد نفسها، وتحقيق رؤاها، بالاستناد إلى قاعدة عريضة من جمهور يؤيد شراسة الحرب، وإلى حكومة "متطرفة" ورئيس لتلك الحكومة يرى في استمرار الحرب مجالا لاستمرار وجوده السياسي، ولذلك وضعت قيادة الحرب في كيان يهود أهدافا من طبيعتها أنها طويلة ومعقدة، من مثل الهزيمة الكاملة للمجاهدين في غزة، وتحقيق نصر كامل واسترداد كافة الرهائن، والقضاء على أي تهديد أمني مستقبلي من القطاع، وأعلنت أن هذه العملية هي عملية طويلة، وحشدت لها الإمكانيات والميزانيات.
من خلال النظر من هذه الزاوية، فإن الانسحاب الأخير قد يكون نهاية مرحلة من مراحل الحرب تمهيدا للمرحلة القادمة، وتعبيرا عن متطلبات، بل واضطرارات ميدانية، أو حتى إجراءات التفافية على الظروف الحالية، أكثر مما هو تغير سياسي وانعطاف في سياسات الكيان وأهدافه من الحرب.
خلال مقابلة مع جيمي ماكغولدريك، منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية، سئل بعد الانسحاب من خانيونس عن قوله إن التوغل في رفح قادم، وعما إذا كان الجانب (الإسرائيلي) قد بدأ يصغي ويستجيب بشكل إيجابي للضغوط العالمية؟ أجاب: "أعتقد أنهم يستمعون إلى ذلك. لكنني أعتقد أن لديهم أيضا أهدافا للحرب، والتي أعتقد أنها ستتفوق على أي أهداف إنسانية. يجب أن ندرك أن الحرب لم تنته بعد بالنسبة لهم. وأعتقد أن الانسحاب من خانيونس يهدف إلى إعدادهم لما هو قادم"، كما تناولت صحافة الكيان وسياسيوه موضوع الانسحاب، وكلها تتعلق تقريبا بواقع ميداني أكثر منه سياسي، من حيث إن طول القتال قد أرهق قوات الجيش، والذي لم يعد وجوده يحقق المزيد بعد أربعة أشهر من دخول خانيونس، وعلى أنه استراحة المحارب، أو إعادة تموضع لاستمرار العمليات وخصوصا عملية اجتياح رفح، أو إتاحة المجال لتخفيف التركيز من وجود اللاجئين في رفح تمهيدا للعمليات فيها، أو حتى مراقبة عودة عناصر المقاتلين إلى الأماكن التي تم الانسحاب منها وخروجهم، مع الأخذ بالاعتبار حادثة ضرب القنصلية الإيرانية وما يستجلبه من تبعات تقتضي التركيز والتفرغ، ولا يمنع أن تكون كل المذكورات أعلاه هي اعتبارات واقعية في قضية الانسحاب، وكل ذلك مع التأكيد من قبل قيادة الكيان على أنه لا صلة بين الضغوط الأمريكية التي تمارس على الكيان والانسحاب من خانيونس، ومع استمرار نتنياهو بالحديث عن عملية رفح وموعدها.
وأما من ناحية الالتفاف على الظروف الحالية ومنها الضغوط الأمريكية، فإن التركيز على النواحي والمساعدات الإنسانية مؤخرا، والأجواء العالمية التي لا يمكن تجاهلها قد أخذت سبيلها إلى إجراءات كيان يهود، خصوصا بعد حادثة مقتل عمال الإغاثة الأجانب، من حيث التغيير في سياسة إدخال البضائع والمساعدات وتمكين السكان من العودة إلى الشمال، لا من حيث سياسة الحرب نفسها.
ومن هنا، فإنه لا ينبغي أن يقرأ الانسحاب على أنه نهاية للحرب، فكيان يهود لا يريد ذلك، ونتنياهو لا يزال يسعى إلى الاستمرار في الحرب، بل وتوسيع رقعتها كلما استطاع، كما أشارت الضربة للقنصلية الإيرانية، وتصرفات الأمريكان ليست كافية حتى الآن في قضية إنهاء العمليات العسكرية في غزة، حتى وإن كانت جادة وتمارس ضغوطا في كبح تهور الكيان، مع ملاحظة رغبة الطرفين في إنهاء حكم حركة حماس للقطاع.
إن ما ينبغي ملاحظته هو أن الكلام عن سياسة الكيان لا يعني أن تنفيذها يجري بسلاسة، بل إن الكيان بالرغم مما جلبه من خيله ورجله في حرب غزة إلا أنه حتى اللحظة عاجز عن الحسم، وعالق في الأهداف التي وضعها ولا يزال بعيدا عن تحقيقها، سواء من ناحية تحرير الرهائن، أو القضاء على المجاهدين الأبطال، بل إن طاقاته وقدراته ودعايته للحرب بدأت كلها في التآكل، وما تحقق حتى الآن ليس إلا الدمار وقتل المدنيين، وقد انقلبت الأجواء العالمية ضده، وباتت حكومة نتنياهو وأداؤها في الداخل والخارج موضع تساؤل من حيث الإنجازات، ولذلك يحاول نتنياهو تعليق الانتصار على إكمال عملية رفح.
طوال الأشهر الأولى لم تخالف الإدارة الأمريكية اليهود في تفاصيل الحرب، ولم يكن في حساباتها حجم الدمار والضحايا، خاصة وأن أمريكا هي من دعمت وسلحت ووفرت وقود تلك الحرب، وبالتالي فإن حجم الدمار والضحايا والمجاعة لم يكن هو العامل الحاسم في الخلاف بين الأمريكان وقيادة الكيان، ولا في التغير في نمط التعامل الأمريكي مع حرب غزة، ولكن الأمريكان يدركون الآن فشل كيان يهود في حسم الحرب والخروج منها، كما يدركون الفرق بين حرب الكيان وأمنه ووجوده، وبين حرب نتنياهو وغاياتها، وهم يحاولون إيجاد المخارج التي تحول دون استمرار الإضرار بمصالحهم، وبمصلحة وجود الكيان.
لقد بات الكل ينتظر مخرجا من حالة الحرب، وكان ينبغي أن يكون المخرج بيد الأمة الإسلامية، شأن كل الأمم التي ترد عن نفسها البغي والعدوان، لولا حكام غرقوا في العمالة وجعلوا قوى الأمة وشعوبها، بل وقوى المنطقة تحديدا خارج الحسابات والمعادلة، وإن صمود المجاهدين الذي حرم كيان يهود من الحسم، ليؤكد بأن حسم الصراع مع هذا الكيان متأت بسهولة، لو صار للمسلمين دولة إسلامية حقيقية، ودون ذلك فستبقى الأمة تدفع الأثمان الباهظة، وستبقى شعوب المنطقة عرضة لما تعرضت له غزة، خاصة وأن الحكام الحاليين أعطوا الانطباع أنه لا توجد خطوط حمر لمدى انبطاحهم وخيانتهم.
بقلم: الأستاذ يوسف أبو زر