في خطوة تكشف عن مدى التردي الذي وصلت إليه الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين، أعلنت مصر بدء خصخصة خمس شركات مملوكة للجيش، بإشراف شركات استشارية دولية ثبتت صلاتها المباشرة بكيان يهود وجيشه. هذه الخطوة ليست مجرد قرار اقتصادي يُتخذ في سياق سياسات السوق والحوكمة كما يُروّج لها، بل هي في حقيقتها خيانة موصوفة، وتفريط بأمن الأمة ومقدراتها، وتسليم مفاتيح سيادتها الاقتصادية والاستراتيجية لأعدائها مغتصبي أرضها ومضطهدي أهلها.
إن الخصخصة في ذاتها، بوصفها نهجاً اقتصادياً يمكّن الأفراد والشركات من السيطرة على الثروات والمرافق العامة، تتناقض مع أحكام الإسلام. فالملكية في الإسلام تنقسم إلى ثلاثة أنواع: فردية، وعامة، وملكية الدولة. وما كان من قبيل الملكية العامة، كالثروات الباطنية، والمياه، والطاقة، والطرق العامة، لا يجوز بأي حال تمليكه للأفراد أو الشركات الخاصة.
وشركات جهاز مشروعات الخدمة الوطنية ليست مجرد كيانات اقتصادية مستقلة، بل هي أذرع عسكرية فاعلة ضمن منظومة الجيش، تُستخدم لتأمين احتياجاته، وتوفير التمويل المستقل له (كما يدعي النظام)، وتعزيز هيمنتها على مفاصل الاقتصاد الحيوي. ومن ثم فإن تسليم هذه الشركات لمستثمرين من القطاع الخاص، تحت إشراف شركات أجنبية لها صلات مع كيان يهود، هو بمثابة تفكيك لقدرة الجيش وتسليم لملفاته الحساسة بيد أعداء الأمة.
المثير للقلق هو أن الإشراف على هذه العملية أُوكل إلى شركات استشارية ثبت أنها تنشط تجارياً وأمنياً داخل الكيان الغاصب، منها مجموعة بوسطن للاستشارات، وشركتا برايس ووترهاوس كوبرز وجرانت ثورنتون. وتكفي الإشارة إلى أن تاليا غازيت، التي تتولى إدارة التحول الرقمي والأمن السيبراني في برايس ووترهاوس فرع كيان يهود، هي ضابطة برتبة عقيد في وحدة مامرام، الذراع السيبراني لجيش يهود. بل إن بوسطن نفسها شاركت في تأسيس "مؤسسة غزة الإنسانية"، التي مارست التجويع والتصفية المنظمة لأهل غزة تحت غطاء المساعدات.
فكيف تقبل دولة تزعم أنها ذات سيادة أن تُفوض خصخصة شركات تابعة لوزارة الدفاع لشركات لها علاقات موثقة بقيادات عسكرية في كيان يهود؟! وكيف تسوغ لنفسها تمكين هذه الكيانات من الاطلاع على ملفات عسكرية، وبيانات مالية، وهياكل تنظيمية، وخطط تشغيلية تمس أمنها؟ إن ما يحدث هو تسليمٌ طوعيٌ للسيادة وفتح للأبواب أمام العدو ليطلع على ما لا يُطلع عليه إلا ولي أمر المسلمين الشرعي.
إن الإسلام يحرم تحريماً قاطعاً تسليم شؤون المسلمين، لا سيما ما يخص الجيش والدفاع، للكفار، أو لمن ثبتت عداوتهم للأمة. قال تعالى: ﴿لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾ أي أن من يوالي الكفار ويوكل إليهم أمور المسلمين، أو يرضى بتسليم مفاتيح القوة لهم، فقد خرج من مظلة الولاء لله ورسوله.
وما تفعله مصر اليوم، بتوقيعها اتفاقيات مع شركات استشارية على صلة بالاحتلال، هو تمكين للكفار من شؤون المسلمين، بل ومن أسرارهم العسكرية والاقتصادية، وهذا لا يجوز بحال، لا سيما أن هؤلاء المستشارين قد شاركوا في جرائم إبادة في غزة.
الجيش في الإسلام ليس كياناً استثمارياً ولا مؤسسة تجارية، وإنما هو جهاز حربي له عقيدة قتالية مهيأ لحماية بيضة الإسلام ورد العدوان عن الأمة، وكل ما يُمكّن هذا الجيش من أداء وظيفته، من تجهيز وتسليح وإمداد لوجستي، لا يجوز قطّ أن يُسلّم للأجنبي، ولا أن يُفكك تحت عنوان الخصخصة أو الإصلاح. بل الواجب شرعا أن يُنفق عليه من بيت مال المسلمين، دون رهن مقدراته للصناديق الدولية أو الخبراء الأجانب. أما بيع أذرعه الاقتصادية التي لا يجب أن توجد أصلا، وفتحها أمام الاستثمارات الأجنبية، فهو خلعٌ لسلاح الأمة من يدها وتسليمه للعدو، والأصل ألا يكون لها وجود، فالجيش ليس تاجرا ولا صانعا ولا يشتغل بالسياسة والحكم، فالجيش وظيفته الجهاد، والدولة ترعاه وتكفله وتكفل حاجاته، وما يجب حقيقة أن تكون هذه الشركات تحت تصرف الدولة لا الجيش ولا تباع لأحد ولا تخصص كونها من الملكية العامة.
إنّ ما يزيد هذا القرار جرماً فوق جُرم، أنه يأتي في وقت تُرتكب فيه مجازر إبادة جماعية في غزة، على يد الجيش نفسه الذي تربط هذه الشركات به علاقات وثيقة. فكيف تسمح دولة تدّعي دعمها لفلسطين أن تتعاقد مع من يُموّل ويروّج ويصمم خطط التهجير والقتل لأبناء غزة؟! أليس هذا من التعاون المحرم؟ أليس من نواقض الولاء والبراء؟
بل ما يزيد الطين بلة أن يُروّج لهذا التفريط على أنه إصلاح اقتصادي وتنمية! بينما هو في جوهره تفكيك للسيادة، وبيعٌ لمقدرات المسلمين، وتسليمٌ لأسرارهم للعدو.
الواجب الشرعي اليوم ليس الخصخصة ولا تلبية شروط الصندوق الدولي، وإنما الانفكاك التام عن النظام الرأسمالي ومنظومته الاستعمارية، وإعادة بناء الاقتصاد على أساس الأحكام الشرعية:
- إلغاء الربا والتعامل مع النقد كغطاء ذهبي حقيقي
- إعادة الاعتبار للملكية العامة ومنع تمليكها للقطاع الخاص
- حصر مهام الجيش في حماية الأمة وحمل الإسلام للعالم بالدعوة والجهاد، لا في إدارة مصانع ومزارع ومحطات وقود
- منع أي شكل من أشكال التعاون أو الشراكة مع من ثبتت عدواته للأمة، ولو كان في صورة مستشار أو خبير دولي
فالاقتصاد في الإسلام لا يُفصل عن العقيدة، بل هو فرع عنها، تحكمه حلالاً وحراماً، ولا يُدار وفق مؤشرات السوق الحر، بل وفق أحكام ربانية تضمن العدل، وتحول دون التبعية.
إن ما يحدث اليوم من خصخصة لاقتصاد الجيش المصري تحت إشراف شركات ذات ارتباط مباشر بكيان يهود، هو خيانة لله ورسوله والمؤمنين، وتحقيق لرغبات المستعمر دون قيد أو شرط. وهذا لا يجوز السكوت عليه، بل يجب أن يُنكر إنكاراً صريحاً، وأن يُكشف على رؤوس الأشهاد، وأن يُدعى أبناء الأمة وخاصة الجيوش إلى الوقوف في وجهه، والعمل الجاد لإقامة سلطان الإسلام الذي يحمي الأمة ويصون مقدراتها من العبث والخيانة.
إن الحل الوحيد لمصر وأهلها هو في تبني الاقتصاد الإسلامي وتطبيقه كاملا مع باقي أنظمة الإسلام التي يكمل بعضها بعضا في ظل الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، التي ترعى الناس بالإسلام وتقسم الملكيات على أساسه فتضع الملكية العامة وتجعلها تحت إدارة الدولة لترعى الناس بها حقا خير رعاية بعيدا عن الغرب واحتكاره للخدمات وشركاته الناهبة للثروات، فاللهم أعد لنا دولة الإسلام وسلطانه وشرعه لنستظل بظلها من جديد؛ خلافة راشدة على منهاج النبوة.
بقلم: الأستاذ محمود الليثي
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية مصر