العلاقة مع من يغتصب بلاد المسلمين ويدنس مقدساتهم لا يمكن أن تكون علاقة ود وتعاون وسلام، بل هي علاقة جهاد ومقاومة ومدافعة، قال تعالى: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾، هذا حكم شرعي لا خلاف عليه. ومع ذلك، نسمع اليوم أصواتا داخلية وخارجية من أبناء المسلمين تلوم المقاومة وتحملها مسؤولية ما يرتكبه المحتل من مجازر، وكأن الجلاد (الكفار) بريء والضحية (المسلمين) مذنبة! هذه الظاهرة ليست مجرد انحراف في البوصلة الفكرية والأخلاقية، بل تعكس أنماطا نفسية وسياسية معقدة تستحق التفسير والفهم.
1- البعد النفسي: وهم العدالة وتخفيف القلق
بعض الأفراد يحاولون تفسير المأساة بطريقة تجعلهم يشعرون أن العالم "عادل"، وأن الغرب لديه قيم غير القيمة المادية، فيقولون: لو لم تفعل المقاومة كذا، لما حصل كذا، هذا التفسير يمنحهم وَهْمَ السيطرة والرضا النفسي بدلا من مواجهة الحقيقة المرعبة وهي أن العدو قادر على البطش بلا حدود وبدون مبررات.
كما أن مواجهة الاحتلال المدجج بالقوة تثير عجزا نفسيا هائلا، فيلجأ بعض الناس لإزاحة الغضب نحو الطرف الأقرب (المقاومة)، لأن مواجهته أقل خطرا نفسيا من مواجهة المحتل نفسه. وفي لحظات الكارثة، يبحث الإنسان عن منقذ أو مُلام ليخفف من قلقه أمام مشهد الصدمة والترويع وعدم الجدوى.
2- البعد المجتمعي: تراكم الضعف وعقلية المهزوم
عقود من الاحتلال والحصار والخذلان العربي صنعت نمطا مجتمعيا من التطبيع مع الضعف. بعض الناس باتوا يرون أن السلام مع المحتل وشرعنه الاحتلال أفضل من دفع ثمن المقاومة! ومع طول أمد الاحتلال والبطش تنشأ ما تسمى "عقلية المهزوم"، حيث ينظر إلى العدو كقوة مطلقة لا تهزم، وهذا ما تحاول الأنظمة الوظيفية في بلاد المسلمين ترسيخه، فيتحول اللوم نحو الذات بدلا من الخصم.
وفي أجواء الانقسام الداخلي، يجد البعض في الخلافات الحزبية مبررا لتحميل المقاومة مسؤولية المأساة والإبادة بدلا من تحميلها للاحتلال.
3- البعد الإعلامي والسياسي: صناعة السردية وتشويه البوصلة
الآلة الإعلامية الضخمة للاحتلال تعمل على شيطنة المقاومة والحركات المسلحة وتقديمها كالمذنب الذي يجر الويلات على غزة والمنطقة. ومع تكرار القصف والقتل والإبادة والمشاهد المروعة، تتسرب هذه السردية حتى إلى بعض الضحايا أنفسهم.
إلى جانب ذلك، يعتمد الاحتلال على استراتيجية رفع التكلفة المجتمعية للمقاومة؛ كلما تراكم الدمار والقتل والنزوح، ازداد الضغط الداخلي على الناس لرفض خيار الجهاد. هنا يصبح الموقف ليس كراهية للمقاومة والجهاد بقدر ما هو عجز عن تحمل الثمن.
4- البعد البراغماتي: البحث عن حلول آنية
هناك أيضا من يتبنى فكرة الجهاد فكريا، لكنه عمليا حين يرى الثمن الباهظ يسعى لحلول آنية، والخلاص اللحظي بوقف القصف بأي ثمن، حتى لو بدا ذلك رفضا للمقاومة. هؤلاء لا ينكرون حق المقاومة، لكنهم يفضلون معالجة الألم المباشر بدلا من التمسك بخيار التحرر والتحرير والانعتاق طويل المدى، وكثير التكلفة.
خاتمة: بين الفهم وحفظ البوصلة
إن تحليل هذه الظاهرة لا يعني تبريرها، بل محاولة لفهمها بأبعادها النفسية والمجتمعية والسياسية. والمطلوب أن نحافظ على بوصلتنا الفكرية والأخلاقية، باتجاه العقيدة وما انبثق عنها من أحكام، والتمسك بخيار الجهاد، فالمحتل الكافر هو المسؤول الأول عن كل جريمة، وأنظمة سايكس بيكو الوظيفية هي المسؤول ثانيا عن تبرير جرائمه، وخذلان أهل فلسطين ومنع جيوش المسلمين من نصرتهم، فالمقاومة تظل خيارا طبيعيا للتحرر، وحكما شرعيا، حتى ونحن نناقش أخطاء المقاومة الميدانية أو السياسية، أو أخطاء المجاهدين وبعض التصرفات أو المواقف، فالفهم ضروري والتحليل لازم والمحاسبة واجبة، والنقد للارتقاء، لكن الانسجام العقدي والتموضع الفكري والأخلاقي الصحيح، وتثبيت البوصلة أهم، حتى لا نقع في فخ لوم الضحية وتبرئة الجلاد.
بقلم: د. أشرف أبو عطايا