أصدر الرئيس الأمريكي ترامب مساء يوم الجمعة الثالث من تشرين الأول/أكتوبر الجاري أمرا لربيبته دولة يهود جاء فيه: "على (إسرائيل) أن توقف قصف غزة فورا حتى نتمكن من إخراج الرهائن بأمان وسرعة".
وقد جاء هذا الأمر في أعقاب رد حركة حماس بالموافقة "جزئيا" على خطة ترامب لوقف الحرب.
ورغم أن كيان يهود لم يخرج سبته، إلا أنه أعلن فورا أن المستوى السياسي فيه قد نقل التعليمات لجيشه لتخفيض النشاط العسكري في غزة ليقتصر على "المهمات الدفاعية" كما وصفها. ورغم أنه بعد هذا الإعلان قتل مئات الشهداء في قطاع غزة معظمهم ارتقوا في مدينة غزة، إلا أن هذه الإعلانات والتصريحات والردود اعتبرت بمثابة البدء بتنفيذ خطة ترامب ذات العشرين بندا لإنهاء الحرب في غزة "وإحلال السلام" فيها وفي المنطقة.
إن قراءة سريعة لبنود خطة ترامب تظهر بوضوح مدى خطورتها كخطة استسلام يُراد لأهل غزة ومجاهديها أن يقبلوا بها، ويُظهر أنها تمت صياغتها بما يحقق ليهود وأمريكا ما عجزوا عن تحقيقه خلال عامين كاملين رغم القتل والدمار والتجويع.
فبنود الخطة تضمن ليهود وبشكل فوري استرجاع أسراهم الأحياء والأموات تحت مسمى التبادل، وتضمن لهم نزع كل سلاح بل كل إنسان أو فكر يمكن أن يشكل خطرا أو إزعاجا لكيانهم تحت مسمى إفراغ غزة من الإرهاب، وتنفيذ ذلك بأيد عربية وإسلامية ودولية تحت مسمى "مراقبين مستقلين" لنزع السلاح وتدمير البنى التحتية، وتضمن لهم البقاء داخل قطاع غزة لمدة طويلة غير معلومة تحت مسمى الانسحاب التدريجي المرحلي والمناطق العازلة والمحيط الأمني، وتضمن لهم أن أهل غزة لن يكون لهم سيطرة على غزة تحت مسمى "حكم انتقالي" بسيادة "مجلس سلام" دولي يرأسه ترامب بنفسه ومن تحته طوني بلير، وتضمن ليهود حراسة كيانهم وتوفير الأمن لهم تحت مسمى "قوة استقرار دولية مؤقتة".
وفي المقابل فإن الخطة لا تقدم لأهل غزة إلا وعودا بإدخال المساعدات عن طريق الأمم المتحدة التي هي في الحقيقة ليست إلا أداة من أدوات الاستعمار، كما أن الخطة تعد بوضع خطة لإعادة الإعمار والتنمية دون تحديد أي نطاق زمني.
ولقد كان من التدبير الشيطاني لإخراج هذه الخطة أن جمعت أمريكا بعض الرويبضات حكام المسلمين من العرب والعجم وأعلنوا مجتمعين ومتفرقين بأنهم يبذلون جهودا "إيجابية" للوصول إلى خطة لإنهاء الحرب، حتى إذا صيغت الخطة بأيدي يهود وترامب وصهره ووزير خارجيته وأعلنوا عنها هُرع الحكام لإصدار بيانات الشكر والثناء على جهود ترامب لوقف الحرب، ما شكّل هالة حول هذه الجهود وهذه الخطة يراد منها إعماء الأبصار عن حقيقتها وخطورتها. ثم إنه كان من هؤلاء الحكام ما يزيد السخرية منهم ومن ولائهم لأمريكا عندما أعلن وزير خارجية باكستان بأن الخطة التي أعلنها ترامب تختلف عن الوثيقة التي اطلعت عليها باكستان والدول العربية والبلاد الإسلامية خلال اجتماعها بترامب قبل ذلك بأيام، وكأنه كانت هناك خطة أخرى، وكأن هذه الأنظمة يمكن أن يكون لها قرار أو رأي غير ما يرى سادتها في واشنطن!
لقد تعامل هؤلاء الحكام مع خطة ترامب ليس على أنها الخطة الوحيدة فحسب، بل أنها خطة تستحق الشكر والثناء، وهم بذلك يريدون التخفيف من وطأة غضب الأمة عليهم، فيمنون على أهل غزة بأن جهودهم أثمرت في وقف الحرب وإدخال المساعدات وإعادة الإعمار، والحقيقة أن توقف الحرب بهذه الطريقة - إن توقفت - لن يطهّر هذه الأنظمة من عار الخيانة والتآمر والتواطؤ ومساندة كيان يهود والحصار الذي أطبقوه على غزة وعلى الشعوب فمنعوها من نصرة إخوانها، وإن الأمة لن تلبث أن تطيح بهم حتى لو توقفت الحرب في غزة، فالأمة تدرك أنها تمتلك خطة حقيقية ليس فقط لإنهاء الحرب على غزة وإنما لتحرير فلسطين كلها، وهي تنادي بها في الميادين، ولكن هؤلاء الحكام لا يريدونها.
إن خطة ترامب هي أيضا عار على أصحاب القوة والمنعة من ضباط وعساكر جيوش المسلمين وإن توقف الحرب بهذه الطريقة - إن حصل كما أسلفت - لن يمسح عارهم إذ تخاذلوا عن استخدام القوة التي بأيديهم لتحرير غزة بل كل فلسطين، بل إنهم لم يستخدموها لإدخال الماء أو الطعام أو الدواء لأهل غزة، وإن سنة الاستبدال لجارية على كبرائهم حتى لو توقفت الحرب في غزة.
إن توقف الحرب بهذه الطريقة لن يعفي أمة الإسلام من واجبها وقد تباطأت عن نصرة إخوانها ولم تؤد واجبها تجاه غزة وكل فلسطين وأهلها ومسراها، بل إن الأمة لم تؤد واجبها تجاه نفسها وعجزت أن تجبر الأنظمة على الاستجابة لصرخاتها.
إن الأمة يجب أن تدرك أنه حتى لو توقفت الحرب في غزة بل حتى لو أعيد بناؤها كأفضل مما كانت، ولو شفي جرحاها فعادوا كأحسن مما كانوا فإنها لا تزال مغتصبة، ولا تزال فلسطين كذلك مغتصبة ولا يزال المسجد الأقصى يدنسه يهود، وأن ذلك كله معلق برقبتها وواجبها.
إن الأمة يجب أن تدرك أن إنهاء الحرب بهذه الطريقة إنما هو قبول بما اشترطه أعداؤنا وأعانهم فيه حكامنا، وأن أهل غزة كانوا ينتظرون من الأمة أن تنخرط معهم بكل قوتها حتى تكون المعركة التي أطلقوها وسطروا فيها أعظم بطولات الجهاد والاستشهاد والصبر والثبات معركة تحرير شامل كامل، أما وقد تباطأت الأمة في الاستجابة لدعوتهم فإنه حتى لو توقفت الحرب في غزة فإنه يتوجب على الأمة أن تكمل الطريق فلا تهدأ حتى تهدم العروش التي منعتها وتكسر القيود التي حبستها وتخترق السدود التي حجزتها عن نصرة إخوانها وتحرير مسراها.
إنه لمن العار الذي يمكن أن يصيب الأمة أن يطلق إخواننا في غزة معركة من أعظم معارك الأمة تستمر عامين كاملين يقدمون فيها أكثر من سبعين ألف شهيد ومئات آلاف الجرحى والمعاقين ثم تنتهي بقرار من رئيس أمريكا لا بقرار من الأمة، فيا أمتنا الغضب الغضب، والنفير النفير حتى لو توقفت الحرب في غزة، فتحريرها وتحرير كل فلسطين من يهود فرض آكد في رقابكم.
بقلم: الأستاذ عبد الله حمد الوادي – الأرض المباركة (فلسطين)