تأتي زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى جنوب شرق آسيا (فيتنام، إندونيسيا، سنغافورة) من 25 إلى 30 أيار/مايو 2025 في إطار استراتيجية فرنسا لـ"التوجه نحو المحيطين الهندي والهادئ"، التي أطلقتها رسمياً عام 2018 كردّة فعل على التطورات الجيوسياسية في المنطقة، مثل اتفاقية "أوكوس" التي استبعدت فرنسا وكلفتها صفقة غواصات مع أستراليا، ومثل رابطة "آسيان" التي تمثل كتلة اقتصادية مهمة في المنطقة، ما دفع باريس لإعادة صياغة نهجها وفق استراتيجية تُؤمّن لها مصالحها الاقتصادية والعسكرية والسياسية وتعزز وجودها الجيوسياسي في منطقة تُعد قلب التنافس الدولي بين أمريكا والصين، خاصة بعد مجيء ترامب وتهديداته لدول المنطقة بحرب تجارية، جعلت باريس تعتقد أن الوقت مناسب أكثر من أي وقت مضى لتفعيل استراتيجيتها وتأمين نفوذها.
فجنوب شرق آسيا، بموقعه الاستراتيجي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وموارده الاقتصادية، ودوله ذات الأغلبية المسلمة كإندونيسيا، يعد ساحة رئيسية للتنافس بين أمريكا (التي تقود تكتلات مثل أوكوس وكواد)، والصين عبر مبادرة الحزام والطريق، وفرنسا التي تسعى لتقديم مسار ثالث بعيداً عن التنافس بين أمريكا والصين فيما عرف بسياسة القوة المتوازنة، وذلك عبر الدبلوماسية الناعمة، أي عقد شراكات اقتصادية وعسكرية بديلة، خاصة بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وتراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا بسبب الضغط الأمريكي المتواصل.
لقد بدأ ماكرون جولته من فيتنام، المستعمرة القديمة لفرنسا وشريكها الاستراتيجي على مدى عقود، حيث التقى يوم 26 أيار/مايو برئيسها لونج كونج والأمين العام للحزب الشيوعي تو لام، وتركزت الزيارة على التعاون في قطاعي الطاقة النظيفة والبنية التحتية، ثم انتقل إلى جاكرتا، أكبر اقتصاد في المنطقة، وعضو مؤسس في آسيان، حيث التقى بوزير الدفاع برابوو سوبيانتو وقدم له وسام الشرف الفرنسي خلال مراسم عسكرية في الأكاديمية العسكرية بماجيلانغ يوم 29 أيار/مايو 2025، وبَحَثَ صفقات أسلحة وتدريبات بحرية مشتركة، كما ناقش مع إندونيسيا، قضية الاعتراف المتبادل بين كيان يهود والسلطة الفلسطينية، تمهيداً لمؤتمر دولي برعاية فرنسية سعودية في حزيران/يونيو 2025، واختتمت الجولة بسنغافورة يوم 30 أيار/مايو 2025 حيث ألقى كلمة في افتتاح منتدى حوار شانغريلا الأمني وحذر من مخاطر تحول تايوان إلى أوكرانيا جديدة في حال سيطرت الصين عليها، ودعا إلى تجنب التصعيد العسكري. كما أكد أن الاعتراف بدولة فلسطين "واجب أخلاقي وضرورة سياسية"، مع شروط مثل نزع سلاح حماس واستبعادها من الحكم، بالإضافة لبحث التعاون التكنولوجي خاصة في مجال الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي.
ما يجدر ذكره أن ماكرون أجرى اتصالاً هاتفياً مع الرئيس الصيني شي جين بينغ يوم 22 أيار/مايو 2025، دعا خلاله إلى تكافؤ فرص المنافسة والدفاع عن قواعد التجارة الدولية، في ردّ على تهديدات الرئيس الأمريكي ترامب بفرض رسوم جمركية على العديد من الدول وعلى رأسها الصين وأوروبا، أي أن فرنسا تمدّ يدها للصين لمواجهة الصلف الأمريكي إذا مضى ترامب في سياسة الحرب التجارية المفتوحة، وتقدّم نفسها لدول المنطقة كشريك موثوق، حيث قال ماكرون: "... إنها رغبة في كتابة صفحة أكثر طموحاً بين فيتنام وفرنسا، وبين رابطة آسيان والاتحاد الأوروبي".
ورغم نجاح فرنسا في عقد العديد من الاتفاقات مع دول المنطقة ومحاولاتها المتكررة أن تكون طرفا في حمايتها كمشاركتها في المناورات العسكرية الأخيرة في إندونيسيا، إلا أنها اتفاقيات لا تتجاوز النواحي التجارية والأمنية التي لا تؤثر في النفوذ السياسي لأمريكا.
فأمريكا تحكم قبضتها على هذه الدول ولها شراكة استراتيجية مع إندونيسيا، وهي تعمل من خلالها على تعزيز نفوذها على رابطة دول جنوب شرق آسيا "آسيان"، للسيطرة على قراراتها حيث فيها دول عديدة ليست كلها تحت هيمنتها، حتى تتمكن من استخدامها للوقوف في وجه الصين أو التأثير عليها، وذلك لمنعها من فرض هيمنتها على منطقة بحر الصين الجنوبي.
إن زيارة ماكرون إلى جنوب شرق آسيا تجسد طموح فرنسا لإعادة بناء صورتها كقوة عالمية مؤثرة، لتعويض تراجع نفوذها في أفريقيا وتأكيد دورها في نظام عالمي متعدد الأقطاب، مستفيدة من تَوَتّر العلاقات بين الصين وأمريكا، إلا أن ما يعرف بالخط الثالث الذي تسعى فرنسا ومن ورائها أوروبا لتقديمه لا يرقى لتحقيق ما تصبو إليه من استراتيجية توازن القوى، وإيجاد نظام دولي يحقق لها نفوذها ويحمي مصالحها، فسياسة الدبلوماسية الناعمة التي ينتهجها ماكرون ستزيد من تقهقر مركز فرنسا وأوروبا في الموقف الدولي، فأمريكا لا ينفع معها إلا سياسة التهديد الفعال.
ولعل التوتر والمنافسة ومن ثم الصراع بين الدول الكبرى يفتح المجال لظهور قوى دولية جديدة تحمل للعالم أفكارا وأنظمة تؤدي إلى استقرار حقيقي، يجنب البشرية ويلات الصراعات القائمة التي تنذر بشرور مستطيرة، خاصة وأن الدولة الأولى في العالم بدأ السوس ينخر أوصالها، ولا توجد مؤشرات تدلل على إمكانية صعودها من جديد، بل إن الأمور تنحدر وتتردى نحو الأسوأ في جميع المجالات. وإن ما يؤخر انكشافها وسقوطها نحو الهاوية هو عدم وجود منافس حقيقي ومؤثر في الساحة الدولية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي سنة 1990، وهو ما يؤكد حتمية قيام دولة الخلافة لملء الفراغ الاستراتيجي وتشكيل نظام دولي جديد ينشر العدل والطمأنينة.
رأيك في الموضوع