لم يُخفِ قادة يهود نواياهم تجاه قطاع غزة منذ الأيام الأولى للحرب، سواء عبر تصريحاتهم أو من خلال آلة حربهم الإجرامية، فلا يزال إفراغ غزة من سكانها، وتهجير أهلها منها هدف يسعى كيان يهود لتحقيقه بقوة، ويستند في مساعيه الشيطانية هذه إلى دعم سياسي ومادي غربي وبالتحديد من أمريكا، كما أنه يعتمد على تواطؤ من حكام المسلمين كافة، وخاصة حكام ما يسمى بدول الطوق، وكل ما يخرج عنهم من تصريحات تزعم رفضهم التهجير محض كذب، وهي تصريحات للاستهلاك الإعلامي وتضليل الرأي العام، فيما واقع تحركاتهم السياسية، وتعاطيهم مع الكارثة الجارية في غزة تؤكد شراكتهم مع الاحتلال لتحقيق هدف التهجير، وكيان يهود حتى الآن لم يتخل عن هذا الهدف، أو يسقطه من حساباته، كما أن حرب الإبادة لم تنته بعد، فالاحتلال يسعى لاستغلال كل فرصة تتاح له للضغط باتجاه تحقيق التهجير، وقد وجد العديد من قادته السياسيين والعسكريين ضالتهم فيما يعرف بخطة ترامب للحل في غزة، والتي يحرصون على التأكيد في كل مناسبة بأن هدفهم تحقيق تلك الخطة الإجرامية.
على مدار 20 شهراً أو يزيد من الحرب المسعورة، لم تخرج عناوين سياسة الكيان المجرم، وخططه تجاه أهل قطاع غزة عن الإبادة والقتل، والحصار والتجويع والتجهيل، وتدمير أي شكل من أشكال الحياة، لسان حاله ومقاله "يا أهل غزة لا مقام لكم فيها، فإما الموت أو التهجير".
وتأكيداً على طبيعته الإجرامية، ورغبته الجامحة في القتل، فإن الاحتلال تعامل مع ملف المساعدات، والتي يفترض أنها إنسانية بمنطق العسكرة، وعمل على استخدامها كجزء من سياسة القتل والتجويع، وأداة من أدوات حرب الإبادة، ولم يكن قبوله بإدخال تلك المساعدات إلى القطاع إلا نتيجة الضغوط التي تعرض لها، جراء تصاعد الرأي العام العالمي ضد ممارساته الإجرامية بحق العزل من النساء والأطفال والشيوخ. والحقيقة أن استجابته لمطالب إدخال المساعدات لم تكن إلا ذراً للرماد في عيون أصحاب تلك المطالب من الدول والمؤسسات والمنظمات، وامتصاصاً لغضب الرأي العام، وتضليلاً للعالم، بينما عمل على إدارة ملف المساعدات ضمن أجندة حربه، وكأداة من أدواتها.
وزيادة في التضليل فقد غلف كل تحركاته وسلوكه الإجرامي في موضوع المساعدات بحجج عدم سيطرة حركة حماس على المساعدات، وضمان منع حصولها على التمويل اللازم بما يمكنها من إعادة تأهيل نفسها، وترميم قدراتها، والقضاء على أي شكل من أشكال الإدارة والسيطرة لها في قطاع غزة، وقد عمل على محاربة المؤسسات والمنظمات الدولية والإقليمية التي تعنى بتقديم الخدمات الإنسانية، متهما إياها بدعم الإرهاب، وفي مقدمة هذه المؤسسات كانت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، وذلك في سياق أهداف سياسية أكبر من مجرد منع تقديم مساعدات وخدمات وتشغيل، فلا يخفى على أحد بأن القضاء على الأونروا على علاتها هو جزء من مخطط تصفية قضية فلسطين.
وما نشاهده يومياً فيما يسمى مراكز توزيع المساعدات - أو مصائد الموت كما أسمتها منظمة الأمم المتحدة - وكيفية إدارتها، وما يجري فيها، يؤكد أن الاحتلال يستغل تلك المساعدات بالطريقة نفسها، وبالأهداف ذاتها التي أدار فيها ملف المساعدات منذ الأيام الأولى للحرب، وتحت العنوان ذاته؛ إما الموت جوعا أو التهجير.
وفي التفاصيل تبدو قذارة الاحتلال ووحشيته بشكل أبشع حيث عمل على استثمار مسألة المساعدات لتحقيق أغراضه الشريرة، فكانت المساعدات وسيلة إما لرصد بعض الأشخاص من المطلوبين، أو إسقاط ضعاف النفوس في وحل العمالة مستغلاً حالة العوز والجوع، أو لنشر الإدمان وتدمير النسيج المجتمعي من الداخل، حيث تم رصد أربع حالات، أفاد فيها الشهود العثور على أقراص مُخدّرة من نوع "Oxycodone" داخل أكياس الطحين التي وصلت إليهم من مراكز المساعدات الأمريكية، بحسب بيان للمكتب الإعلامي الحكومي بغزة، أو التخطيط لإيجاد أجسام وهيئات جديدة لإدارة القطاع، كما في محاولته الفاشلة في استخدام العشائر والعائلات، أو إحداث نوع من الفوضى والشرخ الداخلي وإثارة النعرات، كما هو حاصل مع عصابات سرقة المساعدات، والتي يشكل ياسر أبو شباب النموذج الأبرز لها، حيث يتزعم مجموعة من قطاع طرق شرق مدينة رفح وهي منطقة تقع تحت سيطرة جيش يهود، أو إعادة توزيع تمركز الناس حول مراكز المساعدات وتفريغ معظم مناطق قطاع غزة من سكانها كما هو حاصل في المنطقة الوسطى محور (نيتساريم) ومنطقة رفح جنوب القطاع حيث المركز الأمريكي لتوزيع المساعدات.
وفي كل الأحوال فإن كيان يهود لم يكفّ عن القتل حتى داخل مراكز التوزيع في حالة من السادية والفوضى ونشر الرعب والخوف، إذ إنه يوميا ترد مشاهد صادمة لآلية توزيع المساعدات، وطريقة تعامل قوات الاحتلال مع الناس، كما يتم يومياً الإعلان عن استشهاد وإصابة العشرات من المجوّعين الذي ينتظرون تلك المساعدات، فقد أفاد المكتب الإعلامي الحكومي بغزة يوم الجمعة 27/06/2025 عن وقوع 549 شهيداً و4,066 مصاباً و39 مفقوداً بعد مرور شهر على إنشاء الاحتلال لمصائد الموت والاستدراج الجماعي، الأمر الذي يؤكد السياق الذي يتعاطى به مع تلك المساعدات وهو سياق عسكري خالص، ولم يكن إدخال المساعدات إلا استجابة للضغوطات، بينما يفضل هو سياسة القتل والتجويع لتحقيق هدفه في التهجير، أما وقد فرضت عليه فقد حرص على استثمارها استثماراً شريراً.
وقد أكدنا مرارا وتكراراً بأن قضية غزة ليست قضية طعام وشراب ومساعدات، بل هي قضية احتلال يجب أن يزول، وأرض إسلامية مغتصبة يجب تحريرها، وكل طرح للقضية من الزاوية الإنسانية والمساعدات إنما هو لفرض نمط التدخل والإدارة للخروج من أزمة القطاع، بينما الأصل أن تطرح حالة غزة بوصفها جزءاً من الأمة الإسلامية استعصت على عدوها الذي اعتاد الخضوع والخنوع من الجميع، في حين تمردت غزة، ووقفت في وجه جلادها المجرم، فكان لزاماً أن تدفع الثمن، قضية غزة هي قضية أمة يراد أن يُطفأ فيها ذلك الجزء المضيء، ذلك الجزء الصغير المتبقي الصامد، والذي يأبى الانكسار، يراد له أن يُحطم ويُهشم ليكون نموذجاً في العقاب، وعبرة لكل معتبر.
قضية غزة هي قضية أمة أقعدها عجزها وجبنها، وباتت المصائب تقع عليها الواحدة تلو الأخرى، وتتلقى الضربات على رأسها بلا حراك، فيما تكتفي بمشاهدة ما يحصل لها نتيجة سكوتها سنين طويلة من الخضوع والخنوع لأعدائها وعملائهم الحكام.
وفي السؤال عن الحل، وطريق النجاة، فإن مشكلة غزة ليست مساعدات، وإنما في وجود كيان يهود، ووجود الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين، والتي تحميه وتحافظ على وجوده، وإزاء ذلك فإن المسؤولية الكاملة اليوم تقع على عاتق الأمة الإسلامية وقواها الحية، في استعادة سلطانها والتحرر من هيمنة الطغمة الحاكمة الجاثمة على صدرها، فهؤلاء الحكام شركاء ليهود في قتل وإبادة أهل غزة، والخلاص منهم يجعل الطريق مفتوحة نحو فلسطين كل فلسطين وليس غزة فقط، فلتكن غزة ملهمة لكم في ثباتها وصمودها وتضحيتها، ونبراساً يُضيء لكم الطريق نحو الخلاص، وكونوا على ثقة بأن أي شيء يمكن أن تخسروه في طريق التحرر من سطوة الأنظمة الحاكمة، أهون كثيراً مما خسرتموه، وستخسرونه في حال بقائهم على عروشهم، وقبولكم الخضوع لهم، والعيش تحت وطأة حكمهم الجبري.
رأيك في الموضوع