ظهر بين المسلمين في هذا العصر، من يقول بتحريم الحزبية والسياسة، وهذا أمر خطير في ذاته وتبعاته ونتائجه يقف وراءه المغرضون، لإبعاد الإسلام عن الحياة. فإذا نظرنا في الدليل الذي قام عليه هذا التحريم وجدناه دليلاً عقلياً، وليس له حتى شبهة دليل شرعي، بمعنى أن القائلين به نظروا في واقع الفساد المترتب على وجود هذه الأحزاب السياسية القائمة، وبعموم النظر جعلوا الواقع مصدراً للتشريع وأصدروا حكم العقل على تحريم الحزبية وتحريم السياسة، ثم استشهدوا لقولهم بشبهة دليل (أي: تأويل النصوص الشرعية على غير واقعها)، فقالوا عن قول الله تعالى: ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ بأن هذا ذم للحزبية، وقالوا عن قول رسول الله ﷺ في جوابه على حذيفة بن اليمان: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا» بأن هذا أمر للابتعاد عن الحزبية والسياسة. وهذا التأويل كان تعسفاً ليوافقوا به هوى عقولهم ونفوسهم. والمتعمق في هذه الفكرة يدرك أن الغرب الكافر هو من يقف وراء هذه الفكرة المميتة للأمة الإسلامية والتي تبعدها عن الطريقة الشرعية للتغيير، وإليكم البيان:
الحقيقة أن الذم المفهوم من قوله تعالى: ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ إنما هو ذم للحزبية القائمة على أصل باطل لا يقوم على أساس الدين، حيث قال تعالى في أول هذه الآية الكريمة: ﴿الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً﴾ أي ابتعدوا عن أصل العقيدة فأصبح كل فريق يدعو إلى عقيدة باطلة لا أصل لها، وعليه فإن حقيقة الذم الوارد في الآية الكريمة ليس ذماً لذات الحزبية، وإنما هو ذم للحزبية أو الأحزاب التي قامت على أصل باطل.
وأما الأمر النبوي في الحديث الشريف: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا» فهو أمر باعتزال الفرق الباطلة والساسة الفاسدين الذين أشار إليهم الرسول، حيث قال ﷺ: «دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا»، وعليه فإن الأمر باعتزال الفرق هو أمر باعتزال الفرق الضالة والساسة الفاسدين، وليس أمراً بتحريم السياسة أو الحزبية.
وبالبحث العميق في موضوع الحزبية والسياسة وحكمها في الإسلام، نجد ما يلي:
إن الحزبية من حيث نشأتها هي أمر فطري، لأن الناس بطبيعتهم يسعون لإشباع غرائزهم وحاجاتهم العضوية، وكل يرى المصلحة في الإشباع من الزاوية التي يؤمن بها في الحياة، ولذا فإن الناس يختلفون في نظرتهم للمصالح وفقاً للعقيدة والتصور، فنجد أن جمعاً أو جماعة من الناس على رأي معين، وعلى النقيض نرى آخرين على رأي مخالف، وكلا الفريقين صارا حزبين مختلفين، وحزب الرجل في اللغة من هم على رأيه. والإسلام لم ينكر فكرة التحزب، بل أقرها ودعا لإقامتها على أساس العقيدة الإسلامية، حيث قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ فكان الحزب الذي يدعو الناس للإسلام وأفكاره وأحكامه هو حزب الله، والحزب أو الأحزاب التي تدعو الناس إلى غير الإسلام، أو تحمل آراء غير شرعية فهي أحزاب الباطل الذي يزينه الشيطان في قلوب السفهاء.
وهكذا فإن الإسلام ينظر إلى ما تستند إليه الأحزاب ليصدر حكمه عليها، ولا صحة لقول من يقول إن الإسلام حرمها لذاتها، والشاهد على بطلان رأي القائلين بتحريم الحزبية، قوله تعالى: ﴿أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا﴾ إذ لو كانت الحزبية حراماً لأنكر الله على الحزبين لكونهما حزبين بغض النظر عن مضمونهما، وكان اعتبار التحزب حراما حتى وإن كان هذا الحزب على الحق، ولكن الأمر ليس كذلك، لأن الأمر والنهي في الحزبية إنما يتوقف على ما يحمله الحزب من آراء وما يدعو إليه من أفكار وما يقوم به من أعمال وتصرفات، لا على مجرد كونه حزباً.
وكذا في السياسة فإن الأمر يتوقف على الفكرة والطريقة التي يسير عليها السياسي، فإن كان يسوس الناس على أساس فكرة فصل الدين عن الدولة، فإن ذلك حرام يوقع السياسي وأتباعه في سخط الله وغضبه، أما إذا كانت السياسة قائمة على المعروف الذي أمر الله به كما هو حال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فهذا أمر يجب القيام به والسير وراء العاملين به، حيث قال رسول الله ﷺ: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ» أي ترعاهم بالأحكام التي أمر الله بها.
فالسياسة هي الرعاية، وفي الإسلام هي رعاية شؤون الناس بأحكام العقيدة الإسلامية، ولا يعتبر فساد هؤلاء الساسة الدجالين حجة لتحريم السياسة لأن فساد المفسدين لا يبرر التنازل عن واجب مسؤوليتنا في رعاية الناس بتطبيق أحكام الإسلام.
والخلاصة: إن القول بتحريم الحزبية والسياسة هو قول خطير وخبيث يسعى قادة الكفر لترسيخه لأمرين، الأول: إبعاد المسلمين عن العمل الجماعي الحزبي لإقامة الإسلام في واقع الحياة، حيث لا يكون العمل لإقامة الإسلام إلا بشكل جماعي حزبي منظم كما دعا إليه رسول الله ﷺ. والثاني: إبعاد الدين عن السياسة والرعاية، حتى يجعلوه دينا كهنوتيا محصورا في الشعائر التعبدية فقط، بينما شؤون السياسة والحكم تُترك لتشريع البشر كما هو حال الحكام والسياسيين الذين على شاكلتهم ممن يسوسون الناس على أساس الوطنيات والقوميات التي كرست العصبية، والديمقراطية العفنة التي كرست الفوضى في الاقتصاد والأخلاق... الخ، وهيهات هيهات أن نصغي لأهوائهم أو نترك الساحة لهم، فإننا أمة عظيمة، أخرجت للناس لتسوسهم وترعاهم بأنظمة الإسلام وأفكاره وأحكامه. فكانت إقامة دولة الخلافة الراشدة الموعودة هي قضيتنا المصيرية وكانت غايتنا هي استئناف الحياة الإسلامية وحمل رسالة الإسلام إلى العالم بالدعوة والجهاد. وإن غداً لناظره قريب بإذن الله تعالى!!
وعليه فاستجابة لقوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، قام حزب التحرير وهو حزب سياسي إسلامي؛ الإسلام مبدؤه والسياسة عمله، يعمل مع الأمة وبينها لإقامة دولة الخلافة الراشدة. وأما أنه حزب إسلامي فواضح من الآراء والأفكار التي يدعو إليها منذ نشأته عام ١٣٧٢هـ-١٩٥٣م، وأما كونه حزبا مبدئيا فواضح من فكرته التي يدعو لإيجادها في واقع الحياة وهي إقامة الخلافة، ومن جنس الطريقة المتعلقة بإيجاد هذه الفكرة، وهي الطريقة الشرعية ذاتها التي سار عليها رسول الله ﷺ لإقامة دولة الإسلام الأولى.
وأما كون السياسة عمله، فإن حزب التحرير في أعماله قد أظهر صدقه وشجاعته في الصدع بالحق من خلال كشف زيف الأفكار الفاسدة ومقارعة الظالمين، وبيان الأفكار والمفاهيم الصحيحة التي دعا إليها الإسلام، وبيان أنظمة الحكم والاقتصاد والتعليم والاجتماع... حيث بينها في كتبه وفي دستور دولة الخلافة وأجهزتها وأنظمة الحكم، ولا تخفى هذه الكتب على كل باحث عن الحق.
رأيك في الموضوع