تتفاوت قيمة الأحداث في حياة الأمم من جهة تأثيرها في نشوئها ومسيرتها، فكانت الهجرة في حياة المسلمين الحدث الأكبر، أدى إلى قيام دولة الإسلام الأولى التي دامت أكثر من ثلاثة عشر قرناً من الزمان، كان المسلمون فيها سادة الدنيا، وحملة مشاعل الهداية والعدل في الناس أجمعين.
إنّ الاستنارة في التفكير تقتضي أنْ يُنظَر إلى حدث الهجرة مرتبطاً بما حوله، زماناً ومكاناً، فقد سبقتها أعمال قام بها رسول الله ﷺ أدّت إليها، وتلتها أيضاً أعمال كانت نتيجة لها، فلا يجوز أنْ تفصل عنهما، وكذلك المكان: في مكة قبل الهجرة وأثناءها، والمدينة بعد الهجرة، فحين النظرة المستنيرة إلى حدث الهجرة يتبيّن أنّه لا ينفصل عمّا سبقه وما تلاه وما أحاط به، هكذا تكون النظرة الدقيقة للهجرة؛ حدث عظيم ناتج عن أعمال كثيرة، أثمر نتائج عظيمة، لا كما جرت عادة الخطباء والمدرسين في المساجد والقنوات الفضائية، يتناولونها تناولاً سطحياً، وأحياناً تناولاً عميقاً لتفصيلاتها وجزئياتها، دون النظرة المستنيرة، فلا يعطونها حقّها ولا يجلّون صورتها في أذهان المسلمين، فتمرّ ذكراها مثلما تمرّ أية ذكرى، دون أن يأخذوا العبرة منها، فلا يندفعوا للعمل لإقامة دولة الإسلام الثانية.
إن الهجرة حدثٌ سياسيٌّ كبير، يجب أن يُنظر إليه نظرة مستنيرة، والنظرة المستنيرة للهجرة تُرِي أنّها صنعت أمة ناهضة، أقامت دولة ومجتمعاً على أساس مبدئي، عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام، وهو مبدأ الإسلام، وهي بذلك غيّرت وجه التاريخ ومسيرته، لتصبح الأمة الإسلامية التي صنعها رسول الله ﷺ بمبدأ الإسلام؛ لتصبح درة تاج التاريخ، وتصبح تلك الأمة هي الصانعة للتاريخ قروناً مديدة.
إنّ الأعمال الجزئية التي قام بها رسول الله ﷺ، والمعجزات التي وقعت معه خلال الهجرة، وشكّلت بمجموعها "حدث الهجرة"؛ قد وصفها الله سبحانه وتعالى في صريح القرآن بأنّها نصر من الله سبحانه وتعالى، فقال عز وجل: ﴿إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ﴾، وهي تصديق لوعد الله سبحانه وتعالى بنصر مَنْ ينصره، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾، وهي وفاء منه سبحانه وتعالى بقسمه بنصر مَنْ ينصره إذ قال سبحانه: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾، وهذا يرشدنا إلى أنّ أعمال الرسول ﷺ في مكة قبل الهجرة إنّما هي نصرٌ من رسول الله ﷺ ومن صحابته الكرام الأوائل لله، استحقوا عليها النصر من الله سبحانه وتعالى بالهجرة وإقامة الدولة الإسلامية الأولى في المدينة، فالرسول ﷺ استحق نصرَ الله بتبليغه رسالة ربه سبحانه بحسب ما أمره تعالى، والصحابة استحقوا نصر الله بثباتهم على الحق.
والناظر المدقق الذي يعقد مقارنة بين الأعمال المقدّمة لنيل نصر الله سبحانه وحجمها، وبين النصر نفسه وحجمه؛ يجد الفرق كبيراً بينهما، فالأعمال المقدّمة - مهما بلغت - قليلة جداً قياساً بالنصر نفسه وحجمه، وهذا منطبق على سير الأنبياء والرسل السابقين، وعلى سيرة سيدنا محمد ﷺ وصحابته الكرام من بعده وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وهذه النتيجة تؤكّد الحقيقة الإيمانية أنّ النصر من عند الله وحده، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم، وتلكما النتيجة والحقيقة تدفعان المسلمين اليوم لامتثال أوامر الله سبحانه وتعالى لإقامة الدولة الإسلامية الثانية، فيقدّمون القليل: العمل لإعادة حكم الإسلام إلى الأرض؛ لينالوا الكثير: نصراً مبيناً من عند الله سبحانه القويّ العزيز.
لقد مَنّ الله عز وجلّ على عباده المؤمنين الذين كانوا قلةً مستضعفين في الأرض، مطارَدين من مجتمعاتهم الحاكمة بالكفر، يخافون أنْ يتخطّفهم الناس؛ منّ عليهم بأنّه آواهم بعد الهجرة في الدولة الإسلامية الجديدة في المدينة المنوّرة، ونصرهم ورزقهم من الطيبات، فقال عزّ من قائل: ﴿وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ﴾، وهذه سُنَّة الله سبحانه وتعالى في خلقه، السُّنَّة التي لا نجد لها تبديلاً ولا تحويلاً، وهكذا كانت مع الرسل السابقين: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾، وهذه السُّنَّة باقية إلى يوم القيامة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهي تنطبق علينا نحن المسلمين اليوم، مستضعفون في الأرض ومقسَّمون إلى كيانات هزيلة تتحكّم فيها الدول الكافرة المستعمرة، ومع ذلك فإن مصدر قوتنا سبحانه وتعالى موجود، وإنّ ناصرَنا عز وجلّ موجود، وسُنَّتُه ماضية فينا كما مضت في مَنْ قبلنا، فنحن قادرون اليوم على العمل لصناعة نهضة جديدة للأمة الإسلامية، وقادرون على العمل لإقامة الدولة الإسلامية الثانية كما أقامها رسول الله ﷺ أول مرة، ووعدُ الله سبحانه وتعالى بالنصر قائم، فماذا ينتظر المسلمون؟
حقاً لقد غيّرت الهجرة وجه التاريخ، ووجه العالم، وصبغتهما بالصبغة التي أرادها الله سبحانه وتعالى: ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدون﴾، لكنا نرى اليوم رئيس وزراء كيان يهود المسخ رافعاً عقيرته أنّه سيقوم بتغيير وجه الشرق الأوسط، ونرى الرئيس الأمريكي ينعق بأنّه سيعقد صفقات تغيّر وجه الشرق الأوسط، أي البلاد الإسلامية، ليس أقلها صفقة ديانة أبراهام، والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه: أين أنتم أيها المسلمون أمام ما ترون وما تسمعون؟ ألستم تملكون الأرض وما فيها وما عليها من ثروات وموقع استراتيجي؟ ألستم أصحاب التاريخ الطويل في النهضة المبدئية التي أخرجتم بها الناس من الظلمات إلى النور؟ ألستم أصحاب الهجرة التي قامت بها الدولة الإسلامية الأولى وغيّرتم بها وجه التاريخ ووجه العالم كلّه؟ أليس فيكم حزب التحرير الرائد الذي لا يكذب أهله، حامل لواء النهضة بمبدأ الإسلام العظيم؟ وأنتم بجيوشكم وقوتكم قادرون على نصرته، لينصركم الله سبحانه بإقامة الدولة الإسلامية الثانية، كما نصر الله سبحانه وتعالى رسوله ﷺ وصحابته الكرام بالهجرة وإقامة الدولة الإسلامية الأولى، فهلمّ أيها المسلمون إلى هذا الخير العظيم، واعملوا مع حزب التحرير وانصروه.
رأيك في الموضوع