أصدر المؤتمر الدولي بشأن التسوية السلمية لقضية فلسطين وتنفيذ حل الدولتين الذي عقد في نيويورك ما بين 28-30 تموز/يوليو 2025 برئاسة مشتركة بين السعودية وفرنسا، بيانا ختاميا تحت عنوان "إعلان نيويورك"، متضمناً الاتفاق على اتخاذ "خطوات ملموسة" و"مرتبطة بإطار زمني ولا رجعة فيها" من أجل تسوية قضية فلسطين.
وإضافة إلى مشاركة السعودية في رئاسة هذا المؤتمر إلى جانب فرنسا فقد شاركت فيه أيضا جامعة الدول العربية ومصر والأردن وقطر وتركيا وإندونيسيا والسنغال وبريطانيا والاتحاد الأوروبي ودول أخرى.
إذا استعرضنا سريعا إعلان نيويورك نجد أن هذا المؤتمر الذي في ظاهره أنه عُقد من أجل وقف التجويع الواقع على أهل غزة وإنهاء الحرب والاعتراف بالدولة الفلسطينية، فإن باطنه علاوة على ما جاء فيه صراحة هو في الحقيقة خلاف ذلك، فالإعلان يرسم خطاً عريضا أساسياً يضمن في حال تنفيذه تحقيق ما لم تستطع آلة الاحتلال العسكرية أن تحققه على الأرض بالقوة والإبادة والتجويع، كما أنه يحرص على أن تكون بنوده مقبولة لكيان يهود، وتضفي الشرعية الكاملة لكل ما يقوم به. وهو عند الحديث عما هو مطلوب من الاحتلال يستخدم عبارات "طالبنا، وأيدنا، ودعونا"، وعند الحديث عما هو مطلوب من أهل فلسطين يستخدم عبارة "ينبغي، ويجب، والتزمنا".
وحيث إن المقام لا يتسع لمناقشة بنود الإعلان كلها فإننا نعرض جزءاً منها لبيان ذلك، حيث إنه:
* ساوى بين الضحية والجلاد فيما يتعلق بالأعمال الحربية، رغم ما يشاهده العالم من جريمة إبادة راح ضحيتها أكثر من ستين ألف شهيد، ورغم الدمار الهائل الذي جعل معظم مناطق القطاع غير قابلة للسكن، ورغم التهجير والتجويع.
* يفرض على المقاومين تسليم السلاح، ويتعهد بأن أية دولة فلسطينية ستقوم استنادا إلى مشروع حل الدولتين ستكون منزوعة السلاح تماما، تحت مبرر أنها ستتمتع بالحماية الدولية.
* يفرض على حركة حماس إطلاق جميع الأسرى وإعادة جميع الرفات، ولا يفرض على الاحتلال تحرير جميع الأسرى في معتقلاته، بل يجعله منوطا بصفقة تبادل.
* يفرض على حماس تسليم قطاع غزة بالكامل للسلطة الفلسطينية تحت إشراف دولي، ويؤيد نشر بعثة دولية مؤقتة لتحقيق ذلك.
* يقرن بين إقامة دولة فلسطينية وبين اندماج كيان يهود وتحقيق الأمن له والتطبيع والتعايش.
* أعلن الالتزام بتدابير وبرامج مكافحة الإرهاب والتحريض وتعزيز ثقافة السلام عبر جميع المنصات بما في ذلك تحديث المناهج الفلسطينية.
* نص على إجبار الفصائل على نبذ العنف واتخاذ تدابير صارمة ضد كل من يرفض التسوية المطروحة.
* نص على دعم قوات الأمن الفلسطينية بالمال والتدريب والإشراف من خلال شركاء دوليين وإقليميين.
مما سبق وغيره يتضح بأن هذه نفسها في حقيقة الأمر مطالب يهود: أن تستسلم حماس، أن تسلم سلاحها، أن تخرج من حكم غزة، وهو ما أعرب عنه ترامب وإدارته.
وبالتالي فإن أهداف الحرب التي وضعها نتنياهو وعجز عن تحقيقها أصبح المطلوب من خلال المؤتمر الدولي أن تحققها السلطة الفلسطينية بدعم وشراكة دوليين، يعني أن السلطة ستكون رأس حربة للعالم في تحقيق أهداف يهود في الحرب التي أكدت عليها أمريكا، وأن المهمة تتعدى محاربة المجاهدين، بل يصل الأمر إلى محاربة التطرف، فالقول بتحرير فلسطين من البحر إلى النهر تطرف، والمطالبة بتحكيم شرع الله تطرف، وكون أرض فلسطين وقفا إسلاميا تطرف. وأما التحريض فدعوة المسلمين لواجبهم تجاه فلسطين، والدعوة إلى تحرك الجيش، ومدح الجهاد والمجاهدين، والدعوة لعدم القبول بمعاهدات السلام كل هذا يعتبر تحريضا. ومن هنا مطلوب من هذا الذي سيحكم غزة في اليوم التالي ليس أن يحارب المجاهدين فحسب، بل مطلوب منه أن يحارب كل دعوة يمكن أن تسمى تحريضا أو تطرفا، وكل دعوة تتعلق بالإسلام كنظام وحضارة وجهة تقوم في وجه الغرب وحضارته يعتبرها الغرب تطرفاً، وكل دعوة للتحرك بناء على أحكام الإسلام تجاه فلسطين وغيرها تعتبر تطرفا. وبمعنى آخر مطلوب من الحاكم المتوقع بناء على مؤتمر السلام أن يحارب الإسلام والدعاة له في غزة وفي سائر فلسطين، بل وأكثر من ذلك حيث تضمن الإعلان تغيير المناهج بعد كل التغييرات التي مسختها.
ويتضح أيضا حسب الإعلان أن كل عمل للسلطة مطلوب منها أن تقوم به تحت تدريب الأمريكان والأوروبيين والجهات الدولية، وهي تماما القوات نفسها التي دربها دايتون لتخرج الفلسطيني الجديد الذي هو مستعد لقتال أهله واقتحام المخيمات والتنسيق الأمني (التجسس)، فهؤلاء سيدربونهم حسب المؤتمر ليكونوا أعداء لكل من تسول له نفسه حمل السلاح ضد يهود، يعني ليصبحوا جنودا لحماية يهود، ولتصميم وإنتاج الفلسطيني (النعجة) الذي لا يمانع أن يأكله الذئب لأنه يقدس السلام والتعايش حتى ولو كان ميتا.
وفي النهاية فكل هذه الشروط والمطالب إن طبقت من خلال هذا المؤتمر أو غيره فإن السلطة الفلسطينية جاهزة بتاريخها المعهود لأن تطبقها بحذافيرها وأن تكون ملكية في ذلك أكثر من الملك نفسه، أي أكثر من يهود وأمريكا والنظام الدولي ومن حكام المسلمين.
وهذا كله مقابل عدم وجود أي ضمانة أو أعمال دولية ذات بال يمكن أن تجبر يهود على شيء، فيبقى الحال على وضعه الحالي باستحالة أن يعطي يهودُ للسلطة شيئا، فما بالك بدولة فلسطينية مستقلة!
والخلاصة، فإن كل ما قدمه المؤتمر المتباكي على أهل غزة ما هو إلا محاولة صنع نصر عجز عنه يهود، وتأمين أمنه ودمجه في المنطقة الإسلامية مقابل لا شيء سوى المزيد من التهجير والحصار الخانق لغزة والضفة، وآلية ذلك حسب هذا المؤتمر وإعلانه أن ما على أهل فلسطين أن يفعلوه يجب أن يفعلوه فورا وبحزم، وما يُطلب من الاحتلال سيكون رهنا بمفاوضات جديدة يملك فيها كل الأدوات لتحقيق أهدافه كلها!
كتبه: الأستاذ عامر أبو الريش – الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع