(مترجم)
اختُتمت القمة السادسة والأربعون لرابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، التي عقدت يومي 26 و27 أيار/مايو 2025 في كوالالمبور، تحت شعار "الشمولية والاستدامة"، بسلسلة من الإعلانات والخطط الاستراتيجية التي عُرضت كجهود لبناء مستقبل إقليمي شامل ومرن ومستدام. وشكّل "إعلان كوالالمبور حول آسيان 2045: مستقبلنا المشترك" الوثيقة المرجعية الرئيسية، حيث حدد خارطة طريق تمتد لعشرين عاماً، تشمل أبعاداً سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية ورقمية (آسيان، 2025).
في الواقع، لم تُمثّل هذه القمة استقلالاً حقيقياً لدولها الأعضاء، بل كشفت بشكل أكبر عن تجذر آسيان في النظام الرأسمالي الدولي وخضوعها لهياكل القوة العالمية.
إن ما يطلق عليه اسم "آسيان 2045" هو في الواقع امتداد لأجندة تكامل إقليمي نيوليبرالية. فهو يعزز التحرير الاقتصادي، وتوسيع الاستثمارات الأجنبية، وتطوير البنية التحتية الرقمية، والتعاون الجيوسياسي بين الكتل، وكل ذلك في إطار رؤية عالمية علمانية تفصل الدين عن الحياة والحكم. في جوهرها، تواصل رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) العمل في فلك النظام العالمي الذي يهيمن عليه الغرب، حيث النمو الاقتصادي هو الهدف الأسمى، بغض النظر عن تأثيره على الرفاه المجتمعي، أو السيادة الإسلامية، أو الهياكل المجتمعية.
إن التزام رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) بالتحول الرقمي وحوكمة الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك مبادرات مثل "آسيان يوبين" والإطار التنظيمي الإقليمي للذكاء الاصطناعي، بعيد كل البعد عن الحياد. بل إنه يُشكل تكاملاً مباشراً في نظام بيئي رقمي عالمي تحكمه شركات متعددة الجنسيات وتشكله المصالح الاستراتيجية للقوى العالمية (آسيان، 2025). وتستخدم التكنولوجيا كأداة للهيمنة والاستعمار الفكري، بدل تسخيرها في إطار التقوى والمسؤولية الشرعية. يُسلّع النظام الرأسمالي البيانات، ويُشيّئ البشر من خلال التحليلات، ويُرسّخ المراقبة عبر الذكاء الاصطناعي، وهو نهج يتناقض تناقضاً صارخاً مع الرؤية الإسلامية للعالم، التي تُعلي من شأن العدالة وحرمة الكرامة الإنسانية.
وفي مجال الأمن والجغرافيا السياسية، برهنت رابطة دول جنوب شرق آسيا مجدداً على عجزها عن إدارة الأزمات بفعالية أو بالاعتماد على مواقف مبدئية. وتُظهر قضية ميانمار المستمرة، المُدارة من خلال إجماع النقاط الخمس غير الفعّال، أن رابطة (آسيان) تعمل كمنصة دبلوماسية ضعيفة تفتقر إلى أي سلطة إنفاذ. وفي حالة بحر الصين الجنوبي، ورغم الإشارات المتكررة إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار والدعوات إلى حل سلمي، فإن هناك نقصاً في الإرادة السياسية لمواجهة تصرفات الصين الحازمة بأي طريقة مجدية. ولا تزال رابطة آسيان هيئة تكنوقراطية، تعمل على أساس إجماع براغماتي بدلاً من الوضوح الفكري أو المواقف المبدئية أو السيادة الحقيقية.
اقتصادياً، يعكس فرض أمريكا للرسوم الجمركية على ست دول من رابطة (آسيان) ضعف اقتصادات المنطقة في ظل النظام العالمي. فبدلاً من السعي للتحرر من هذا النظام الرأسمالي، استجابت هذه الرابطة بتسريع المفاوضات بشأن اتفاقيات تجارية مثل اتفاقية التجارة الحرة بين آسيان وماليزيا (ATIGA) واتفاقية التجارة الحرة بين آسيان وآسيان 3.0. وقد أدى ذلك إلى ترسيخ وجود رابطة (آسيان) في إطار منظمة التجارة العالمية ونظام التجارة الحرة العالمي، وهو نظام يجعل البلاد الإسلامية مجرد أسواق استهلاكية ومستودعات للعمالة الرخيصة للشركات الرأسمالية العالمية.
ومما زاد الطين بلة حضور مسؤولين أمريكيين رفيعي المستوى، بقيادة وزير الخارجية ماركو روبيو، في القمم المتعلقة بآسيان في الفترة من 8 إلى 12 تموز/يوليو 2025. ولم يكن هذا ظهوراً رمزياً، بل كان خطوة استراتيجية لضمان بقاء رابطة (آسيان) بشكل عام، وماليزيا بشكل خاص، منسجمة مع المصالح الجيوسياسية لواشنطن. وتشمل هذه التحديات مواجهة نفوذ الصين، والضغط من أجل سياسات الذكاء الاصطناعي والأمن الرقمي المتوافقة مع الأطر الغربية، والحفاظ على الهيمنة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية في المنطقة.
على ما يبدو، أصبحت قمة آسيان السادسة والأربعون فعلياً مسرحاً للتنافس بين الأجندات الاستعمارية الأمريكية والصينية، حيث أصبحت آسيان بمثابة بيدق جيوسياسي. وهذا يكشف بوضوح غياب أي كيان سياسي ذي سيادة ملتزم بحماية مصالح الأمة على أساس إطار إسلامي مبدئي.
ورغم تقديم التعاون الثلاثي بين آسيان ومجلس التعاون الخليجي والصين على أنه توحيد اقتصادي جنوبي، إلا أنه لا يزال عالقاً في النموذج الرأسمالي نفسه. فدول مجلس التعاون الخليجي نفسها تعمل في ظل النظام الرأسمالي، ما يجعل مثل هذه الاتفاقيات امتداداً آخر للتوسع النيوليبرالي العابر للحدود، بعيداً كل البعد عن أي جهد صادق نحو التوحيد السياسي للأمة الإسلامية في ظل خلافة تطبق الشريعة الإسلامية بالكامل.
وبالمثل، صوّر مؤتمر القمة الاقتصادية للمرأة في رابطة دول جنوب شرق آسيا (AWES 2025)، صور تمكين المرأة من منظور الإنتاجية الليبرالية. حيث تُختزل المرأة إلى مجرد عنصر اقتصادي لتلبية احتياجات أسواق العمل العالمية، متجاهلةً دورها الأساسي في بناء الأسرة وتنشئة الأجيال وتماسك المجتمع. ولا يزال النظام الرأسمالي يقيس قيمة المرأة بمساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي، بينما يكرّم الإسلام المرأة باعتبارها مخلوقا نبيلا، له أدوار مميزة حددها الإسلام. ولن يتحقق التمكين الحقيقي إلا بتطبيق النظام الاجتماعي الإسلامي تطبيقاً كاملاً، بما يحفظ كرامة المرأة ويوازن بين الحقوق والمسؤوليات.
وفيما يتعلق بالقضايا البيئية، لا تزال تعهدات رابطة دول جنوب شرق آسيا بالتنمية المستدامة والعمل المناخي مُقوّضةً بسبب الاعتماد المستمر على الوقود الأحفوري تحت ستار أمن الطاقة. إن الاستدامة في ظل النظام الرأسمالي ليست أكثر من شعار علاقات عامة، يُخفي الحقيقة العميقة المتمثلة في الجشع والاستغلال المنهجي للموارد. بدون تحول جذري عن الفكرة الكامنة وراء التنمية الرأسمالية، يظل كل خطاب بيئي مجرد واجهة خادعة.
وفي الختام، تكشف قمة آسيان السادسة والأربعون عن الوجه الحقيقي للنظام الدولي الذي لا يزال يُقيد البلاد الإسلامية، نظام قائم على الرأسمالية والعلمانية، حيث السلطة السياسية أداة للهيمنة، والأنظمة الاقتصادية آليات للإخضاع، والتكنولوجيا جهاز للمراقبة والتحكم. ليست آسيان أداةً للتحرر الحقيقي للأمة، بل هي بناء ما بعد استعماري يعمل ضمن نموذج ويستفاليا الذي يُجزّئ البلاد الإسلامية إلى دول قومية ضعيفة وتابعة.
إن الأمة تحتاج إلى نظام بديل ليس فقط لتحرير نفسها من الهيمنة الأجنبية، بل للتوحد تحت قيادة سياسية واحدة تحكم وفق أحكام الإسلام. إنها الخلافة، التي قادت العالم بالعدل، ووحدت بلاد المسلمين تحت راية واحدة،
بقلم: الأستاذ عبد الحكيم عثمان
الناطق الرسمي لحزب التحرير في ماليزيا
رأيك في الموضوع