كانت أوروبا في العصور الوسطى تتبنى العقيدة النصرانية المحرَّفة التي تمنح الحاكم حق التشريع وتمنح تشريعاته وكافة أعماله قدسية تمنع محاسبته والتغيير عليه فيما يعرف بالتفويض الإلهي، والذي يعني أن الملك يمثل إرادة الله في الأرض، فكانت العقيدة النصرانية المحرفة هي الأساس الذي مكن للملك إصدار التشريعات والقوانين وأكسبها قوة الإلزام للأتباع.
وأسّس ذلك للاستبداد باسم الدين، وبسببه ولما نتج عنه من ظلم ثار الصراع بين رجال الكنيسة والمفكرين الداعين للتخلص من فساد الحاكم وسيطرته مع الكنيسة على حياة الناس ومقدراتهم، وانتهى هذا الصراع بتبني الناس عقيدة فصل الدين عن الحياة، فيما أصبحت التشريعات الناظمة للعلاقات بين الأفراد أو بينهم وبين الدولة تصدر عن مجلس تشريعي يجسد إرادة الناس وتكون السيادة فيه للشعب لا للدين.
وإذا ما رجعنا إلى بداية الإسلام مع بعثة الرسول ﷺ نجد أن أهل يثرب بعدما تبنوا الإسلام في عقيدته وشريعته، وبعد إعطاء الأنصار النصرة لرسول الله ﷺ في بيعة العقبة الثانية، وبعد الهجرة إلى المدينة المنورة، وضع رسول الله وثيقة المدينة، فكانت الدستور الناظم للحياة في المدينة المنورة.
وفي سوريا أصدرت قيادة المرحلة الإعلان الدستوري بتاريخ 13/3/2025 متضمناً 53 مادة دستورية تكرس العقيدة الرأسمالية العلمانية وهي ذاتها عقيدة نظام أسد الذي ثرنا عليه لإسقاطه، إلا أن ما حصل بعد ذلك يدل على أن الطاغية سقط ولكن دستوره لم يسقط.
وإذا وقفنا مع بعض المواد الواردة فيه للتدليل على ذلك التناقض:
ففي المادة الأولى ينص على أن (الجمهورية العربية السورية دولة مستقلة ذات سيادة كاملة وهي وحدة جغرافية وسياسية لا تتجزأ ولا يجوز التخلي عن أي جزء منها)، فقد أقرت شكل نظام الحكم الجمهوري المنبثق عن العلمانية والتشريع فيه للبشر من دون الله. والإيمان بالله يقتضي الإيمان بحقه الحصري في التشريع: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾.
وفي الكلمة الثانية (العربية) كرست العصبية القومية التي تفرق بين المسلمين على أساس قومياتهم وأعراقهم وتخالف قوله عليه ﷺ: «لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ، إلَّا بِالتَّقْوَى». والقومية تخالف ولا تساوي بين المسلمين في الحقوق والواجبات، فالمسلم العربي وَفْقَها يحق له ما لا يحق لغيره من بربر أو تُرك، وتوجب عليه ما لا توجبه على غيره.
وفي الكلمة الثالثة (السورية) كرّست الوطنية المنحطة التي تفرق بين أبناء الأمة وتجعل الولاء للأرض ومحصورة داخل الحدود التي خطها الكافر المستعمر لتمزيق الأمة.
واذا ما انتقلنا إلى تتمة المادة (... دولة مستقلة ذات سيادة كاملة وهي وحدة جغرافية وسياسية لا تتجزأ ولا يجوز التخلي عن أي جزء منها)، فهل هي دولة مستقلة عن ضغوط النظام الدولي أم أنها مستقلة بمعنى منفصلة عن بقية البلاد الإسلامية؟! وبالتالي فإن هذا الاستقلال هو تكريس للتفرقة التي خطها وأسس لها المستعمر الغربي في اتفاقية سايكس بيكو. فالجميع يقولون إن الأعداء يتعاملون معنا وفق قاعدة (فرق تسد)، ثم ترى الكثيرين لا يدركون أن هذه الأنظمة تحفظ وترعى هذه التفرقة بل وتزيدها!
وفي المادة الثانية (دين رئيس الجمهورية الإسلام، والفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع) فعبارة المصدر الرئيسي المذكورة تجعل الإسلام أحد مصادر التشريع فيقرّ وجود مصادر أخرى، وهذا فيه اتهام مبطن للشريعة الإسلامية بالقصور وعدم اشتمالها على كافة الأحكام اللازمة للإنسان في حياته وينافي قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾، فإن كان هناك قصور فهو قصور عن فهم أحكام الإسلام الناظمة للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعدم قدرة على الاجتهاد لاستنباطها.
وبالانتقال إلى الباب الثالث من الإعلان الدستوري:
أولاً- يمارس السلطة التشريعية مجلس الشعب: ففي هذا الباب مناقضة مباشرة ومخالفة للعقيدة الإسلامية، والدليل على ذلك أن رسول الله ﷺ بينما كان يتلو قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَـهاً وَاحِداً لَّا إِلَـهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ إذ دخل عليه عدي بن حاتم وكان قبل الإسلام نصرانياً، فقال (يا رسول الله ما عبدناهم) فرد عليه رسول الله ﷺ: (ألم يحلوا الحرام ويحرموا الحلال؟)، قال: بلى، قال: وأطعتموهم؟، قال: بلى، قال: فتلك عبادتكم إياهم). وهذا بيان منه ﷺ لمعنى العبودية ألا وهي الطاعة والخضوع للمشرع. ويكون مجلس الشعب هو مجلس أرباب يشرعون من دون الله.
والمادة 30 من الإعلان الدستوري تقول يتولى مجلس الشعب المهام التالية:
أ- اقتراح القوانين وإقرارها.
ب- تعديل وإلغاء القوانين السابقة.
فبحسب هاتين الفقرتين فإن لمجلس الشعب حق اقتراح القوانين وإقرارها، مع أن القوانين والتشريعات في الإسلام تؤخذ باجتهاد صحيح من مصادر التشريع المعتبرة، وهي الكتاب والسنة وما أرشدا إليه من إجماع الصحابة والقياس الشرعي. أما إلغاء القوانين وتعديلها فإنه عدا عن مخالفته للعقيدة الإسلامية وشريعتها فإنه يجعل الأعمال التي كانت بالأمس ممنوعة ومحرمة، مسموحة وحسنة اليوم. وهذا يؤدي إلى اضطراب الحياة رغم أن طبيعة البشر تميل إلى الاستقرار في الزواج والسكن والعمل وجميع العلاقات، ولا يضمن ذلك الاستقرار إلا ثبات التشريع، أما التغيير فيه فيحيل الحياة ضنكاً وشقاءً، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىَ﴾.
ولو تتبعنا جميع المواد الواردة في الإعلان الدستوري المذكور فلن يتسع المقام لبيان المخالفات الشرعية التي تضمنتها، ولهذا سأكتفي بما ذكرته.
وإنني أتوجه بالخطاب لأمتي العظيمة عامة، ولأهل ثورة الشام خاصةً، إننا عشنا ردحا طويلا من الزمن تحت حكم هذه الأنظمة التي كانت تحكمنا وتغذينا بمفاهيم الغرب وعقيدته العلمانية، مع تضليل متعمد وتجهيل ممنهج بالمفاهيم الإسلامية، خاصة ما يتعلق منها بأنظمة الحكم والاقتصاد والاجتماع، حتى صار شكل الدولة في الإسلام ونظام حكمه غريباً عن المسلمين بل مستهجناً عند بعضهم.
ورسالتي إلى إدارة المرحلة الحالية في سوريا، ما زال بمقدوركم تدارك الأمر، والرجوع عن الذنب فضيلة، ورجوعكم إلى تبني الدستور القائم على أساس العقيدة الإسلامية وتطبيق شريعته واجب من الله تعالى الذي منَّ على أهل الثورة بالنصر منه وحده، فأروا الله من أنفسكم خيرا.
وتبنيكم للدستور الإسلامي واجب أيضاً عليكم وفاءً بما عاهدتم عليه مجاهدينا وشهداءنا من غير تبديل به ولا تنكب عنه، فتكونون: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾.
وبهذا فقط نؤدي واجب الشكر لله على نصره ونصون التضحيات لئلا تضيع على عتبات المجتمع الدولي، فلا نصل إلى رضا الله سبحانه وتعالى إلا بتطبيق شرعه، ولن نصل إلى رضا الغرب إلا باتباع عقيدته وشريعته: ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾.
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، والحمد لله رب العالمين.
بقلم: الأستاذ مرعي الحسن
رأيك في الموضوع