في ظل تصاعد عدوان يهود على غزة، خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتصريح فجّ، طالب فيه بالسماح بمرور السفن الأمريكية عبر قناة السويس "مجاناً"، بحجة الدعم المقدم لكيان يهود وحماية مصالحه في المنطقة.
تصريح ترامب هو تعبير صريح عن العقلية الاستعمارية الأمريكية التي ترى قناة السويس ومضائق المسلمين مجرد أدوات تحت تصرفها، وامتداداً مباشراً للهيمنة العسكرية والاقتصادية الأمريكية على بلاد المسلمين، وخاصة مصر، بوصفها الدولة المالكة لقناة السويس اسماً، لا فعلاً.
تتشدق الأنظمة في مصر منذ عبد الناصر وحتى السيسي بشعار "السيادة الوطنية على قناة السويس"، بينما الحقيقة على الأرض، ووفق المعاهدات الدولية والواقع السياسي، تؤكد أن السيادة الحقيقية عليها مرهونة بإرادة الدول الاستعمارية، وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا.
المادة الأولى من اتفاقية القسطنطينية 1888 (التي ما زالت مصر ملزمة بها دولياً) تنص على: "تظل القناة حرة ومفتوحة في وقت السلم والحرب، لكل السفن التجارية والحربية على السواء، دون تمييز في الجنسيات". وحتى بعد "تأميم القناة" عام 1956، لم تخرج من مظلة الضغط الغربي، بل إن مصر ما تزال تلتزم بمقتضيات هذه الاتفاقية تحت رقابة ضمنية من الدول الكبرى. فهل يستطيع النظام المصري أن يغلق القناة في وجه الأساطيل الأمريكية أو البريطانية؟ هل يملك القرار؟ الجواب واضح: لا.
بل إننا رأينا في آذار/مارس 2021، خلال أزمة جنوح سفينة "إيفر غيفن"، أن من تولى إدارة الموقف والتحقيق في الواقعة هو فريق دولي يضم خبراء بريطانيين وأمريكيين ويابانيين، وكان القرار المصري مرهوناً بهم!
إن الدعوة لمرور السفن الأمريكية مجاناً ليست منفصلة عن السياق الإقليمي والدولي:
- حرب غزة وتصاعد الغضب الشعبي الإسلامي: أمريكا تدرك أن الشارع الإسلامي يتجه نحو الغليان، وأن أي اشتعال شعبي في مصر قد يعرقل الدعم اللوجستي ليهود. لذا تريد ضمان حرية مرور سفنها الحربية واللوجستية نحو البحر الأحمر ومنه إلى شرق المتوسط دون أية معوقات.
- تأمين خط الغاز الصهيوني – الأوروبي:
قناة السويس جزء حيوي في نقل الغاز من كيان يهود لأوروبا. إلى جانب ذلك ترامب وغيره من ساسة الغرب يرون أن مصر يجب أن تُستخدم كـ"ممر مجاني" لحماية مصالح يهود.
- الهيمنة الاقتصادية والاستراتيجية:
قناة السويس تمثل اليوم أكثر من 12% من التجارة العالمية، وتمر بها يومياً أكثر من 50 سفينة.
وأمريكا تريد تحويل هذه القناة إلى طريق استراتيجي أمريكي دائم تحت وصايتها، دون دفع رسوم، ودون رقابة، كما تفعل في قواعدها العسكرية المنتشرة في العالم، في ظل انهيار الأنظمة العربية أمام سطوة البيت الأبيض، ومع احتمالات سقوطها فعليا مستقبلا.
فمن أين تأتي هذه الوقاحة التي يتحدث بها ترامب؟ أليس لأن الأنظمة القائمة في بلاد المسلمين، ومنها مصر، فاقدة للإرادة السياسية، تابعة ذليلة؟
ترامب يعلم جيداً أن السيسي رهينة لدى صندوق النقد الدولي، والبيت الأبيض. والنظام المصري ينسق أمنياً مع الاحتلال بدرجة لا تخفى، لا سيما في سيناء وغزة.
أمريكا تدير المشهد الإقليمي عبر أدواتها: الأنظمة العميلة، وليس عبر شعوب الأمة.
من هنا، فإن دعوته تمرير السفن الأمريكية مجاناً، ليست استفزازاً فقط، بل هي تذكير للسيسي بموقعه الحقيقي بأنه منفّذ للأوامر، لا صاحب قرار.
إن قناة السويس وكل الممرات المائية والموارد العامة، هي ملكية عامة للأمة الإسلامية، لا يحق لحاكم أن يخص بها دولة محاربة فعلا ولا حكما، ولا أن يتحكم بها لصالح المستعمر. قال ﷺ: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ»، وهذا يشمل الطرق والمضائق التي تنفع الأمة كلها. فمن أباح لأمريكا أو غيرها المرور المجاني أو التسهيلات الأمنية، فقد خان الأمانة، وجعل العدو يتمتع بما هو حق للأمة، وهو أمر محرم شرعاً، ويفضي إلى التمكين للكفر والعدوان. قال تعالى: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾ فكيف يكون للكافر سبيل عسكري واستراتيجي واقتصادي في أعز مفاصل الأمة؟! ولكونها من الملكيات العامة للأمة الإسلامية، فلا يجوز التفريط فيها ولا استغلالها لمصلحة الكافر المستعمر. فكل المرافق العامة الكبرى - كالمياه والطرق والمعابر - لا يجوز تخصيصها أو منح امتيازات فيها لجهة معينة، خاصة إن كانت معادية للمسلمين. فما بالكم إذا كانت الدولة التي تطالب بالمرور المجاني هي رأس الحربة في دعم كيان يهود، وحامية لجرائمه، وراعية لاحتلاله؟! والأدهى من ذلك، أن أمريكا نفسها تغلق ممرات ومضائق عن الدول التي تخالفها، فكيف تُطالب بامتيازات في قناة السويس بينما تُغلق مضيق هرمز بوجه من تشاء؟!
وما يثير الريبة أكثر، هو تزامن تصريحات ترامب مع تسريبات عن اعتزام أمريكا إنشاء قاعدة عسكرية في تيران وصنافير، وهما الجزيرتان اللتان سلّمهما النظام المصري للسعودية، لتتولى الأخيرة تهيئتهما أمام تفاهمات أمريكية مع كيان يهود، في خطوة تمهد لتحويل مضيق تيران إلى مياه دولية و"نقطة ارتكاز عسكرية أمريكية" تتحكم في بوابة خليج العقبة وقناة السويس معاً.
الأصل أن بلاد المسلمين دولة واحدة لا حدود بينها ولا فواصل، فلا فرق إن كانت الجزيرتان تحت إدارة مصر أو بلاد الحرمين واقعا وفي ظل دولة تحكم بالإسلام، أما في ظل الأنظمة العميلة فإن الأمر مرهون بالإرادة الدولية وما تحيك من مؤامرات لتخضع الأمة وتمنعها من النهوض وتجبرها على الركوع وتلقيها في قيود التبعية لعقود قادمة، فعندما سلّم النظام المصري جزر تيران وصنافير إلى السعودية، رغم اعتراضات قانونية ودستورية واسعة حسب قانونهم الوضعي، لم يكن النظام يسعى للحفاظ على "الحق التاريخي"، بل كان ينفذ مطلباً استراتيجياً للولايات المتحدة وكيان يهود، يقضي بنقل الجزر إلى إدارة سعودية تسهّل التموضع الأمريكي هناك، دون حرج من اتفاقية كامب ديفيد، بل وحتى يصبح دخول آل سعود في الاتفاقية مبرَّرا، ناهيك عما في نقل إدارة الجزيرتين من تدويل للمر المائي بينهما وبين سيناء والذي كان ملكا مصريا خالصا حتى لا يصبح تحت قبضة مصر حال تغير الإدارة وانقلاب الوضع أو انفلاته مستقبلا. وقد كشف موقع بوليتيكو ومصادر أمريكية عن خطة واشنطن لإنشاء قاعدة عسكرية هناك تحت ذريعة "مراقبة الملاحة" وحماية أمن البحر الأحمر.
وهذا يعني تطويق قناة السويس من جهتين: من البحر الأحمر بجنوبها (تيران)، ومن المتوسط عبر القواعد الأمريكية في قبرص واليونان. وتقييد أي قرار سيادي مصري مستقبلي تجاه قناة السويس أو سيناء. وتحويل المنطقة إلى ساحة إدارة أمريكية للبحر والسيادة والثروات، فأمريكا في ظل ترامب وإدارته تعمل بعقلية التاجر الرأسمالي الجشع الذي يسعى لاحتكار الثروات وإضعاف كل المنافسين، بل حتى الشركاء.
إن من يظن أن النظام المصري سيقول "لا" لأمريكا، فهو واهم. فهذا النظام لم يقل "لا" حين احتُلت بغداد، ولا حين أُبيدت غزة، ولا حين صودر الغاز المصري لصالح الاحتلال. بل هو جزء من المنظومة الغربية، يؤدي دوره الوظيفي بإخلاص.
الرد الحقيقي على ترامب وأطماعه لا يكون ببيانات دبلوماسية جوفاء، بل بقيام دولة الخلافة التي تقطع دابر الكفر وتمنع هيمنة المستعمر. فلا حل إلا بالخلافة الراشدة التي تحرر القناة وكل الأرض، فلا السيادة الوطنية الوهمية، ولا التحالفات الإقليمية، تستطيع أن تصد أطماع أمريكا في قناة السويس أو في غيرها، وإنما القادر على ذلك هو فقط دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، التي تحكم بالإسلام، وتملك القرار السيادي الحقيقي، وتجمع الجيوش تحت قيادة مخلصة، وتعيد للأمة سلطانها من جديد.
فالخلافة لا تعرف "حرية مرور"، ولا "شراكات استراتيجية" مع الأعداء، بل تُقيم علاقاتها على أساس الإسلام، وتردع الكفار، وتجعل القوة للإسلام وحده. هذه الخلافة هي التي تجعل القناة سلاحاً بيد الأمة لا ممراً للمستعمر، وتمنع مرور أي سفينة أمريكية أو صهيونية، بل وتستخدم الموقع الاستراتيجي للأمة لردع الكفر لا خدمته. الخلافة هي التي تحول القناة من مورد رسوم إلى أداة استراتيجية في مشروع حمل الإسلام للعالم، فلا يمر فيها من يحارب الإسلام والمسلمين.
ففي دولة الخلافة: تُمنع سفن كل الدول الاستعمارية والمحاربة وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا وفرنسا من المرور في مياهنا أصلاً، ناهيك عن المرور المجاني! وتُستخدم قناة السويس كأداة استراتيجية في يد الدولة ولصالح الأمة، لا أداة ضغط علينا، وتُوجَّه الجيوش لتحرير فلسطين، لا لحراسة اتفاقيات كامب ديفيد.
كم من خطابات سمعنا عن "السيادة الوطنية"، وكم من بيانات قرأنا عن "القرار المصري المستقل"، لكن على أرض الواقع: القواعد الأمريكية باقية في المنطقة، والتمويل الأجنبي هو من يحدد سياسة الدولة، والقرارات السيادية تُؤخذ من واشنطن وتُنفّذ في القاهرة؟!
إن السيادة في الإسلام لا تعني "الحدود المصطنعة"، بل تعني السلطان الذي يَملك قرار الحرب والسلم والاقتصاد والتشريع، ويمنع الكافر من التسلط على رقاب المسلمين. وإن السيادة الحقيقية لا تكون إلا بتحكيم الإسلام، وتحرير الإرادة السياسية من قبضة الكافر المستعمر، وهذا لا يتحقق إلا بإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
إن دعوة ترامب لمرور سفنه مجاناً ليست استفزازاً عارضاً، بل تذكير صارخ بحقيقة العلاقة بين الغرب والأنظمة العميلة. أما السيادة، فهي شعار مرفوع على خرقة بالية، يرفعها حكام لا يملكون قرارهم، ولا يجرؤون على منع العدو من الاستفادة من خيرات الأمة. وإننا في حزب التحرير نقول للأمة الإسلامية: لا تقفوا عند تصريح ترامب، بل اسألوا أنفسكم: من يحكمنا؟ ومن يسيطر على قراراتنا؟ ومن يمنع أمتنا من رد العدوان؟ واسعوا بكل طاقتكم لإقامة دولة الخلافة الراشدة التي تحرر الأرض والمضائق، وتعيد عز الإسلام وهيبته، وتمنع العدو من أن يمر على شبر من أرض المسلمين إلا تحت سيف الجهاد.
يا أهل الكنانة الكرام: لا تنخدعوا بشعارات "السيادة" و"الكرامة" التي ترفعها أنظمة عميلة، تبيع القناة والجزر وتخدم العدو. واعلموا أن ترامب لم يطلب إلا ما يعرف أنه ممكن في ظل أنظمة مطيعة، لم ترَ في تسليم تيران وصنافير ولا في تمركز أمريكا أي خيانة.
وإننا في حزب التحرير ندعوكم اليوم إلى أن تخلعوا هذه الأنظمة الخائنة التي تُمكّن العدو من رقابكم، وأن تعملوا لإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي تعيد للأمة سيادتها الحقيقية وسلطانها على ممراتها وثرواتها وقرارها، وأن توحدوا جيوشكم تحت راية واحدة لتحرير الأرض من غزة إلى تيران، ومن سيناء إلى السويس.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية مصر
رأيك في الموضوع