نشرت صحيفة إندبندنت عربية مقالا للصحفي التونسي حمادي المعمري بتاريخ 15 أيار/مايو 2025 بعنوان "تجميد 12 مبادرة سياسية للمعارضة التونسية". اتفقت جميعها على العودة لمربع الديمقراطية والتشاركية لكن السلطة ترفض قطع مسار 25 تموز/يوليو 2021.
أهم ما ورد في المقال يتمحور حول: ما شهدته تونس منذ عام 2020 لأكثر من 12 مبادرة سياسية لمعالجة الجمود السياسي والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، منها مبادرة الحوار الوطني للاتحاد العام التونسي للشغل، والمؤتمر الوطني الشعبي للإنقاذ لائتلاف صمود، ومبادرات الإنقاذ الثلاثية للمنظمات المدنية، و"تقدم" للمؤرخ عادل اللطيفي. ورغم تنوعها بين داعمة لمسار ما بعد 25 تموز/يوليو 2021 أو معارضة له، إلا أنها فشلت جميعاً في كسب ثقة الشعب أو تجميع القوى السياسية حول مشروع مشترك، بسبب تكرارها لنماذج الحوار السابقة التي هدفت إلى اقتسام السلطة بدل الإصلاح الجذري.
وأرجع المحللون والناشطون هذا الفشل إلى عوامل متعددة: رفض السلطة الحاكمة التفاعل مع المبادرات، وعدم قيام الأحزاب بمراجعة أخطاء العشرية السابقة (2011–2021) التي تميزت بالفساد والتمويلات الأجنبية والصراعات الحزبية الضيقة. كما أن شيطنة الأحزاب وملاحقة قادتها، وفقدانها المصداقية أمام الشعب، وتحولها إلى أجسام منكمشة غير قادرة على النقد الذاتي، جعل مبادراتها مجرد أفكار غير قابلة للتطبيق في ظل هيمنة وسائل التواصل كقوة تأثير تفوق الأحزاب التقليدية.
لما هُزمت الأمة عسكرياً أمام الغرب، انساقت تحت تأثير عقدة "تقليد المغلوب للغالب"، فتبنت نتاج الفكر السياسي الغربي عبر عملية ترويض منهجية للنخب المصنوعة، وتشكلت طبقة سياسية منفصمة عن الأمة وثقافتها لتبنِّيها فلسفات غربية تتناقض مع ثقافة الأمة، أبرزها:
- فصل الدين عن الدولة (كناتج للصراع الغربي مع الكنيسة)
- فلسفة الحل الوسط (بين حكم الشعب المباشر وحكم الملك)
تماهي النخب السياسية مع النموذج الغربي
احتذت هذه النخب النهج الغربي في:
1- تبني النظريات السياسية الغربية لمعالجة قضايا المؤتمرات والمبادرات.
2- حشر ممارساتها في قوالب الديمقراطية، خاصة فكرة الحكم الجماعي عبر:
- البرلمانات (سلطة تشريعية)
- مجالس الوزراء (سلطة تنفيذية)
3- تأسيس الأحزاب على أساس ديمقراطي
4- تبني فكرة منظمات المجتمع المدني أو القطاع الثالث كجسر بين الدولة والمجتمع، وكأداة للاختراق السياسي عن طريق التمويل.
جذور الأزمة التاريخية:
اندلعت ثورات الأمة عبر التاريخ رفضاً للظلم، وكانت انتفاضات القرن العشرين/الواحد والعشرين كالربيع العربي ردّاً شعبيا على:
1- إسقاط الخلافة العثمانية وتفتيت ديار المسلمين.
2- فرض الأنظمة العلمانية الرأسمالية بديلاً عن شريعة الإسلام.
3- تلاعب المستعمر وأعوانه بشعارات زائفة (وطنية، قومية، اشتراكية، ديمقراطية).
وقد اختُطِفت ثورات الربيع العربي خاصّة في النموذج التونسي بطرح فكرة التعددية السياسية الحلّ المثالي لسدّ فراغ السلطة مع المحافظة على النظام الرأسمالي القائم؛ حيث سَهُل اعتمادها كردّة فعل طبيعية على الدكتاتورية التي كانت تساس بها الشعوب المتحررة، ومن ثمة تركيزها كبديل عن الحكم الأحادي الشمولي. كما سهل إلقام هذا الطعم للأحزاب والقوى السياسية الفاقدة للبديل الحضاري المبدئي والعاملة على الإطاحة بالديكتاتوريات الحاكمة والقيام مقامها على رأس السلطة.
استهداف الأحزاب السياسية بالتحديد باعتبارها العصب الرئيسي للعمل السياسي وأداة ربط الحكم والحكام بجماهير الناس، وكذلك الوريث الطبيعي والمنافس التاريخي للزعماء الدكتاتوريين، ومن هذا الباب شكلت التعددية السياسية أحد المرتكزات الرئيسة للالتفاف على هذه الثورات وتمييعها، لإجهاضها في مرحلة لاحقة وتفريق دمها بين الأحزاب.
نقد ظاهرة المبادرات السياسية:
المبادرات السياسية هي في حقيقتها مسكنات خبيثة تصرف عن العلاج الجذري لأزمة الحكم، وتعقّد المشكلة لأنها:
- تنبع من النظام الديمقراطي الفاشل.
- ينفذها حكام رهنوا البلاد لقوى خارجية.
- تحوِّل الصراع إلى معارك بين مرتزقة سياسيين يسعون للاستفراد بالسلطة.
في نهاية الأمر، أي مبادرة لا تمس نظام الحكم أو التدخل الخارجي تشبه علاج السرطان بالأسبرين.
الحكم على الشيء فرع عن تصوره:
عندما ينظر لقضية ما على أنها قضية سياسية يكون الحراك لأجلها سياسيا ومتمثلا في المبادرات السياسية والدبلوماسية والعلاقات مع الأنظمة القائمة، لكن عندما ينظر لها بأنها قضية عسكرية مثل القضية الفلسطينية يكون التركيز والتصور والتخطيط لها من الجانب العسكري بالأساس بقطع النظر على الأبعاد السياسية.
كذلك حين التعامل مع أنظمة سياسية فقدت شرعيتها، بأن أسقطتها ثورات جابت أقطار الأمّة وناشدت التغيير الجذري، فلا بد من النظر لأسس الأنظمة القائمة وما تقتضيه عملية القطع معها ومحاسبة رموزها والقائمين عليها والتغيير الجذري الذي يضمن إزالتها بجميع مستوطناتها الفكرية والسياسية والقانونية.
ويتلخَّص في:
- رفض المبادرات السياسية الترقيعية.
- القطيعة مع النظام الاستعماري وأنظمته المستوردة.
- طرح بديل مبدئي ينطلق من هوية الأمة وعقيدتها.
المعاناة تحت الأنظمة الوضعية:
عاشت الأمّة في تونس وفي غيرها من بلاد المسلمين، بعد هدم الخلافة العثمانية، تقسيما جيوسياسيا عميقا انبثق عنه حكم جبري تحت وطأة أنظمة وضعية صنعها الاستعمار، حيث أخضعوا المسلمين لتجارب متنوعة ومبادئ حكم مختلفة، تارة بأسلوب الترغيب وطورا بالحديد والنّار، ولم تنتج تجارب الحكم بمختلف أصنافها من اشتراكية أو رأسمالية أو غيرها سوى البؤس والإخفاق وخراب البلاد وفساد الذمم، أدى معظمها إلى انقسامات عميقة بين أفراد الأمة الواحدة وصراعات وعداوات، انتهت جلها بحملات قتل وتعذيب وتنكيل بالخصوم.
هذا المشهد الفظيع كان دائما يتشكل تحت إشراف المستعمر، حيث يدير المعارك السياسية من خلف ستار ويضع حكاما على مقاس المرحلة، ولا يغفل عن مراقبة حركة الأمة إزاء الوضع القائم، خشية أن تستعيد بوصلتها، ونظرتها للحياة القائمة على العقيدة الإسلامية.
إن الإسلام يدعو إلى الاعتصام بحبل الله ويحرّم كل أسباب الفرقة والتشرذم بين المسلمين، ويحث على مكارم الأخلاق والتنافس في البرّ والإحسان، وفي الدعوة إلى الخير بما يجعله إطارا صلبا لقيام أحزاب سياسية تتنافس في معالي الأمور وأشرافها، بعيدا عن السفاسف والتخوين وتشويه الخصوم، الذي يؤدي إلى البغضاء وتسلط الأعداء.
وهو وحي من الخالق عزّ وجلّ، يتضمّن الحل الجذري لجميع مشاكل الإنسان عبر معالجات حقيقية لمختلف نواحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وقد عاش المسلمون وغيرهم في ظله في هناءة وعز قروناً من الزمان، فهل ندرك اليوم أن حلول مشاكلنا هي في أحكامه؟ هل ندرك أنها أحكام تنظم كيفية توزيع الأموال، وتنظم أنواع الملكيات، وتنظم طريقة محاسبة الحاكم إذا ظلم أو أخطأ؟
يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾، فالإسلام لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا جعل لها حكما شرعيا، ولا توجد مشكلة إنسانية إلا جعل لها معالجة صحيحة، ولكن مع الأسف غُيبت هذه الأحكام عن واقع المسلمين ليرزحوا تحت ظلم أنظمة الكفر والجور فيخسروا الدنيا والآخرة.
لكن اليوم والحمد لله بانت الحجّة وصارت حقيقة الإسلام وعلوّ تشريعه على غيره من النظم ظاهرة للعيان، في ظلّ تطور وسائل البحث ووسائط المعرفة، وتوفّر البدائل التفصيلية التي يقدمها حزب التحرير، فالتغيير الحقيقي صار ضرورة سياسية ملحّة، تنتظر إرادة الأمة وعزم أهل القوة والمنعة فيها، لطي صفحة الحكم الجبري إلى الأبد، وتحقيق بشرى رسول الله ﷺ بإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، التي تطبق أحكام الإسلام في جميع مناحي الحياة، لتضمن السيادة والعدل في الدنيا والنجاة والفوز في الآخرة.
بقلم: الأستاذ ياسين بن يحيى
رأيك في الموضوع