شهدت مدينة لوس أنجلوس في الأيام الماضية تطورات أثارت تساؤلات حادة حول دوافعها الحقيقية. فهل ما جرى يُعد جزءاً من صراع بين الرئيس دونالد ترامب ومؤسسات الدولة؟ أم ضمن سيناريوهات تتعلق بانفصال كاليفورنيا؟ أم أنه توظيف متعمد للأزمات لتحقيق مكاسب سياسية قبل الانتخابات؟
الواقع يشير إلى أن إدارة ترامب تبنت نهجاً تصعيدياً في هذه الأزمة، ويُرجح أن هدفه كان تعبئة القاعدة الانتخابية الجمهورية، لا سيما في ظل أجواء الانتخابات التشريعية.
خلفية المواجهة: مداهمة مثيرة للشكوك
ما حدث لم يكن مواجهة عادية بين متظاهرين وقوات إنفاذ القانون، بل تشير شهادات وتقارير صحفية محلية إلى أن عناصر من وكالة الهجرة والجمارك الأمريكية (ICE) اقتحموا منطقة ذات غالبية من أصول لاتينية تقدَّر نسبتهم بـ80%، رغم علمهم بأن المنطقة تحتوي على عدد كبير من العمال المهاجرين غير الموثقين بأوراق رسمية. العملية تمت باستخدام قوة مسلحة، على خلاف العادة، ورافقها اقتحام مصنع واعتقال العاملين فيه. هذه الوحدات دخلت المنطقة مدججة بالسلاح، على عكس عملها الروتيني غير المسلح في الغالب.
كما أفادت التقارير بأن القوات قامت بإغلاق الطرق وأطلقت قنابل مسيلة للدموع على متفرجين مدنيين كانوا يوثقون الحدث بهواتفهم. اللافت للاهتمام أن المنطقة لم تكن تشهد أي احتجاجات أو اضطرابات سابقة، ما يثير تساؤلات حول دوافع هذه العملية، خاصة أن إدارة ترامب برّرتها على أساس وجود تهديدات أمنية، لم يكن لها وجود مسبق!
التصعيد غير المبرر: الحرس الوطني والتهديد بالمارينز
ولم تكتف الإدارة بذلك، بل سارع الرئيس ترامب إلى التصريح - منذ الساعات الأولى - بأنه سيرسل قوات الحرس الوطني، ثم هدد بإرسال مشاة البحرية (المارينز)، وهو تصعيد غير مبرر في سياق لم يكن يتطلب ذلك. ما يعزز فرضية أن الهدف لم يكن فرض النظام، بل إثارة أزمة سياسية - وربما أمنية - في ولاية تعتبر من أبرز المعارضين لسياسات إدارته.
كاليفورنيا... الخصم الديمقراطي الأكبر والانتخابات التشريعية
كاليفورنيا، بثقلها الاقتصادي والسياسي، تشكل خصماً صعباً للرئيس الجمهوري. فهي أكبر ولاية من حيث عدد السكان والناخبين، وهي تمثل رابع أكبر اقتصاد في العالم لو كانت دولة مستقلة، وتعتبر معقلاً تقليدياً للحزب الديمقراطي.
كما أنها من الولايات التي تصر على حماية حقوق المهاجرين، ورفضت مراراً التعاون مع قوات ICE، ما يجعلها خصماً رمزياً واستراتيجياً في آن واحد. كما أنها تعتمد بشكل كبير على العمال غير المسجلين (بدون أوراق إقامة) في قطاعات الزراعة والبناء، حيث تسمح لهم بالعمل وتحصّل منهم الضرائب قانونياً.
الاغتيالات السياسية: مؤشر خطير على التصعيد
في سياق متصل، تم تسجيل حوادث اغتيال في ولاية مينيسوتا استهدفت أعضاء في الحزب الديمقراطي، أودت بحياة اثنين وأصابت آخرين بجراح خطيرة، وسط تحقيقات تشير إلى دوافع سياسية. هذه الحوادث تأتي في وقت تواجه فيه إدارة ترامب السابقة انتقادات قضائية، من أبرزها إيقاف قرار تسريح موظفين حكوميين، بينما تعاني الأسواق من فقدان ملايين الوظائف في القطاع الخاص. كل هذه العوامل تُظهر أن الإدارة تعتمد على استراتيجية التصعيد لتحويل الأنظار عن إخفاقاتها الداخلية، خاصة مع اقتراب الانتخابات. فبدلاً من مواجهة انتقادات سياساتها الاقتصادية أو الصحية، يتم اختلاق أزمات أمنية لترهيب الخصوم وتوحيد المؤيدين.
الخلاصة: لعبة سياسية خطيرة تُحرّكها الأجندة الانتخابية
ما جرى في لوس أنجلوس ليس سوى عرض من أعراض أزمة أعمق، تتمثل في تحول سياسات الحكم إلى صراعات ميدانية، بدلاً من النقاش المفتوح، وتتجه أمريكا - وفق هذا السياق - نحو توظيف الأزمات الأمنية والعرقية كأدوات لتصفية الحسابات السياسية، بدلاً من مواجهة التحديات الحقيقية مثل الاقتصاد أو الصحة العامة.
فإرسال قوات مدججة بالسلاح إلى مناطق لاتينية، واعتقال عمال بلا مبرر قانوني، ثم التلويح باستخدام القوة العسكرية، ليس فقط سلوكاً سياسياً تصعيدياً، بل يشكل تهديداً للتماسك المجتمعي في البلاد.
إذا استمر هذا النهج، فقد تجد أمريكا نفسها أمام أزمة بنيوية تهدد نموذجها، وسط تفاقم الاستقطاب السياسي والعرقي، وتراجع الثقة في المؤسسات.
وكاليفورنيا، بثقلها الاقتصادي والسياسي، ليست سوى حلقة في سلسلة المواجهات التي تشنها الإدارة الحالية ضد المعارضين. فبإرسال قوات مسلحة إلى أحياء ذات أغلبية لاتينية، واعتقال عمال دون مبرر واضح، ثم التصعيد بإرسال الحرس الوطني والتهديد بالمارينز، تُرسل واشنطن رسالة واضحة: أي مقاومة لسياساتها ستواجه بعنف مفرط. لكن هذا النهج لا يأتي بثماره دائماً، فالرأي العام يزداد وعياً بحقيقة هذه التكتيكات.
الخطر الأكبر على الوضع الداخلي الأمريكي، هو تحويل أمريكا إلى دولة تعتمد على الفوضى المسيّسة كأداة للحكم. فاغتيال سياسيين ديمقراطيين، وتصعيد المواجهات مع ولايات معارضة، وإثارة النعرات العرقية، كلها مؤشرات على أن البلاد قد تدخل مرحلة جديدة من الاستقطاب العنيف.
في النهاية، ما يحدث في لوس أنجلوس ليس مجرد حدث عابر، بل هو انعكاس لأزمة حكم أعمق، حيث تُستبدل صراعات الشوارع بسياسة الحوارات السياسية ، وتُستبدل خطابات التحريض بالبرامج الانتخابية. والنتيجة؟ أمريكا على حافة الهاوية، بسبب من يصرّون على اللعب بالنار لخدمة مصالحهم الضيقة.
ما حدث في لوس أنجلوس ليس حادثاً معزولاً، بل جرس إنذار. الأيام القادمة قد تحمل تطورات مفصلية، وعلينا مراقبتها عن كثب. نسأل الله أن يُبدل الحال بحكمٍ راشدٍ وعدلٍ يسود فيه الحق، ويعود فيه الإسلام بشريعته رحمة للعالمين.
بقلم: الأستاذ سامر دهشة
رأيك في الموضوع