تُعَدّ قضيّة الموقوفين الإسلاميّين في لبنان من أكثر القضايا حساسيّة على السّاحتين الأمنيّة والسّياسيّة، وهي ملفّ شائك ارتبط بتحوّلات إقليميّة ودوليّة كبرى، ولطالما استُخدِم كورقة في البازار السّياسي، فيما تستمرّ مأساة مئات الشّباب المسلمين القابعين في السّجون منذ سنوات، بلا أفق واضح للحلّ، وبلا إرادة سياسيّة جديّة لإنصافهم.
ظهرت هذه القضيّة مع أحداث الضنيّة عام 2000، وما تلاها من أحداث مخيّم نهر البارد شمال لبنان عام 2007 وما عُرف بظاهرة "فتح الإسلام"، لتصبح ورقة جاهزة في يد السّلطة لتبرير الاعتقالات التعسّفيّة تحت عنوان "محاربة الإرهاب". ومع اندلاع ثورة الشّام عام 2011، دخل الملفّ مرحلة جديدة أكثر تعقيداً، حيث اتّخذت السّلطة السّياسيّة في لبنان إجراءات قمعيّة مشدّدة ضدّ كلّ من تعاطف مع الثّورة أو قدّم لها أي دعم، تنفيذاً لسياسات أمريكيّة هدفت إلى خنق الثّورة، والضّغط على حاضنتها، والسّير بالحلّ السّياسي الذي أرادته واشنطن في سوريا. في تلك المرحلة، اعتُقِل عدد كبير من مناصري الثّورة في لبنان تحت ذرائع: دعم الإرهاب، الانتماء لتنظيمات مسلّحة، أو المشاركة في القتال ضدّ النّظام السّوري البائد.
خلال تلك الحقبة، تجاوز عدد الموقوفين الإسلاميّين خمسة آلاف شخص، فيما يبلغ عددهم اليوم نحو 400 موقوف، بينهم 170 من أهل سوريا، والباقي من أهل لبنان مع عدد من أهل فلسطين. هؤلاء الموقوفون يعيشون ظروفاً بالغة القسوة: اكتظاظ خانق، إهمال صحّي متعمّد، وغياب الحدّ الأدنى من حقوق السّجين. لكن المعاناة الأعمق تتمثّل في تلفيق التّهم، وانتزاع الاعترافات تحت التّعذيب، وترك الموقوفين سنوات طويلة من دون محاكمات. وحتّى حين تتمّ المحاكمات، تكون أمام المحكمة العسكريّة الخاضعة لهيمنة حزب إيران اللبناني، حيث تُصدر أحكاماً جائرة تصل إلى المؤبّد والإعدام. وتشير التقديرات إلى أنّ نحو 55% من الموقوفين بلا محاكمات، فيما خضع 45% منهم لأحكام متفاوتة.
لم يقتصر الاستغلال على خصوم الموقوفين، بل إنّ سياسيي لبنان، وخصوصاً من يُحسبون على "السنّة"، اتخذوا الملف أداة انتخابيّة. لطالما قدّموا للأهالي وعوداً بإصدار قانون العفو العام، وتعهّدوا بإنهاء معاناة أبنائهم، لكنّها وعود سرعان ما تبخّرت بعد انتهاء المواسم الانتخابيّة.
هذا الاستغلال عمّق شعور الأهالي بالخذلان من السّلطة، حتى صاروا يرون أنّ معاناة أبنائهم لا تُحسب إلا كورقة مساومة رخيصة في لعبة النّفوذ السّياسي.
وبعد سقوط نظام آل أسد، عاد الملفّ إلى الواجهة مجدّداً، إذ إنّ معظم الاعتقالات ارتبطت بمناهضة ذلك النّظام ومناصرة ثورة الشّام. غير أنّ الموقوفين دفعوا ثمناً لموقفهم هذا، عبر وصمهم بتهمة "الإرهاب". ومع مجيء الحكومة السّوريّة الجديدة، جرى الحديث عن تحريك الملف والمطالبة بالمعتقلين السّوريين في لبنان. إلا أنّ الأهالي رفضوا حصر المطالب بالسّوريين فقط، وأصرّوا على أن يشمل الضّغط جميع الموقوفين، لبنانيّين كانوا أو فلسطينيّين أو سوريّين، لأنّ القضيّة في جوهرها ليست وطنيّة، بل قضيّة نصرة ثورة الأمّة ضدّ نظام مستبدّ دموي.
وهناك مآسٍ لا تكاد تُحصى؛ عائلات فقدت معيلها الوحيد، أطفال نشأوا بعيداً عن آبائهم، زوجات ينتظرن عودة أزواجهن بلا أمل، وأمّهات يهرمن على أبواب السّجون. كلّ ذلك فيما يتشدّق العالم بشعارات حقوق الإنسان والمحاكمات العادلة، بينما يتغاضى عن الانتهاكات الممنهجة التي تمارس في لبنان تحت غطاء "مكافحة الإرهاب". كلّ ذلك بسبب سطوة القرار السّياسي المحلي المرتبط مباشرة بالمصالح الأمريكية والغربيّة.
لقد أسقط هؤلاء الشّباب حدود سايكس بيكو من عقولهم، حين ناصروا ثورة الشّام بوصفها ثورة الأمّة جمعاء، لا ثورة محصورة بأرض أو وطن. ضحّوا بالغالي والنّفيس في سبيل نصرة إخوانهم، فكان أقلّ الواجب أن يُكرّموا على مواقفهم، لا أن يهانوا ويعتقلوا! إنّهم في نظر منصف، أوسمة شرف، تمثّل أصالة الأمّة وإرادتها، وليسوا إرهابيّين كما حاولت السّلطة أن تُصوّرهم.
من الواضح أنّ ملفّ هؤلاء الموقوفين سياسي بامتياز، وأنّ السّلطة في لبنان خاضعة لإملاءات أمريكيّة هدفها محاصرة الإسلام وأهله بحجة "مكافحة الإرهاب". فالأمر ليس مسألة قانون أو محاكمات عادلة، بل صراع إرادات، حيث يراد للأمّة أن تُقمع ولرموزها أن يُزجّ بهم في المعتقلات كي يكونوا عبرة لغيرهم.
ومن هنا، لا بدّ من حشد الطّاقات والجهود، شعبيّاً وسياسيّاً وإعلاميّاً وحقوقيّاً، لتشكيل ضغط قويّ على السّلطة اللبنانية ومن يقف وراءها، حتى يُرفع هذا الظّلم الجائر، وتُطوى صفحة هذا الملفّ المأساوي.
بقلم: الأستاذ أحمد الشمالي
رأيك في الموضوع