في كل دورة انتخابية تعود أصوات من داخل ما يسمى مؤسسات دينية رسمية في مصر لتروّج لفكرة (الواجب الوطني، والأمانة، والشهادة والمحاسبة أمام الله) في صناديق الاقتراع، وكأن العملية الانتخابية محطة شرعية ومعبَرٌ حقيقيٌّ للتغيير. هذا الخطاب، الذي يتكرر كل عام، ومع كل انتخابات بصيغ مختلفة، يتناقض مع الحقيقة الشرعية ومع الواقع السياسي القائم في بلاد تحكمها دساتير وأنظمة علمانية، لا تحكم بالإسلام، ولا تسمح أصلاً بإقامة حكم الإسلام.
الانتخابات في مصر ليست ممارسة سياسية حقيقية، بل واجهة شكلية تُدار بكل أدوات الدولة الأمنية والإعلامية والبيروقراطية. فالمرشح معروف مسبقاً، والنتيجة محسومة، والمنافسة معدومة، والعملية برمتها تُستخدم كختمٍ لإضفاء شرعية محلية ودولية على واقع سياسي لا يتغير منذ عقود. كما أن المشاركة الجماهيرية التي يُروَّج لها من منابر الإعلام والسلطة ليست دليلاً على نزاهة، بل على قدرة الدولة على الحشد عبر أدوات الضغط، والابتزاز المعيشي، وتوجيه المؤسسات الدينية المصنوعة.
وبالتالي فالقول بأن "الانتخابات تجسيد لإرادة الشعب" مجافٍ للحقيقة؛ لأن الإرادة الحقيقية للشعب لا تُصنع في ظل غياب الحرية السياسية، ووجود أجهزة أمنية تُطارد أي مشروع تغيير حقيقي، وتجريم العمل السياسي المستقل، ومنع أي منافس جاد من الظهور أو التنظيم.
يُروَّج للتصويت بأنه (شهادة، وأمانة، وواجب شرعي). وهذا خطأ كبير فمفهوم (الواجب الوطني) ليس حكماً شرعياً والواجبات يفرضها الوحي، وليس الأنظمة العلمانية ولا وزارات الأوقاف. ولا وجود في الشرع لما يسمى (الواجب الوطني).
كما أن الانتخابات في ظل الأنظمة العلمانية ليست من الشرع لأنها قائمة على أساس دستور وضعي، ومبدأ الديمقراطية الذي يجعل السيادة للشعب لا للشرع. والله تعالى يقول: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ فهذه الدساتير تنقض أصل الإيمان بالحكم الشرعي.
والمشاركة في الانتخابات الديمقراطية إقرارٌ للنظام، وإقرار المنكر محرّم شرعاً، فكيف إذا كان المنكر هو أصل النظام السياسي الذي يعطل شرع الله؟!
لا يُحاسَب المسلم أمام الله على ترك انتخابات علمانية ولا يمكن أن يكون ما يغضب الله واجباً، ولا أن يكون ما يكرسه النظام العلماني أمانة.
إن الإسلام لا يرفض الانتخابات بوصفها آلية، بل يرفض الإطار العلماني الذي تُجريه ضمنه. فالانتخاب أسلوب مشروع عند توفر شرطه: أن يكون أساسه الإسلام.
وقد مارسها النبي ﷺ بشكل واضح في بيعة العقبة الثانية، عندما قال للأنصار أخرجوا لي من بينكم اثني عشر نقيبا. كما مارسها الصحابة في بيعة أبي بكر في السقيفة، ثم مارسوها في بيعة عثمان رضي الله عنهم جميعا، وكانت عملية اختيارٍ حر على أساس الإسلام. إذاً المشكلة ليست في الانتخاب، بل في المبدأ الذي يجري وفقه؛ فإن كان الإسلام أساساً له كان مشروعاً، وإن كانت الديمقراطية أساساً له صار حراماً؛ لأن الديمقراطية نظام وضعي يجعل الإنسان مشرّعاً من دون الله، وهذا يناقض أصلاً من أصول الإيمان.
هناك حقيقة سياسية يشهد بها الواقع والتجارب: لا توجد دولة تغير نظامها عبر صناديق الاقتراع. فهناك الدولة العميقة التي تضمن استمرار النظام بغض النظر عن رغبة الناس. وأجهزة الأمن التابعة للنظام والتي تتحكم بكل تفاصيل المشهد السياسي. بخلاف تلك الدساتير العلمانية نفسها والمعدة سلفا لتثبيت النظام ومنع وصول أي مشروع تغيير إسلامي حقيقي. وبالتالي فأي محاولة لتغيير النظام عبر الصندوق محكومة مسبقاً بالمنع أو الإقصاء. فالانتخابات جزء من النظام لا يمكن أن تكون وسيلة لهدمه. فلا يمكن لوسيلة صنعتها السلطة أن تكون سبيلاً لإسقاطها.
إن طريقة التغيير الشرعية هي تغيير انقلابي شامل لا ترقيع للنظام الديمقراطي، ومنهج الإسلام في التغيير واضح في السيرة النبوية؛ يبدأ بتثقيف الأمة بثقافة الإسلام وتحميلها مشروع دولته التي تطبقه، مرورا بالتفاعل وما يشمله من الصراع الفكري والكفاح السياسي مع الأنظمة القائمة، تزامنا مع طلب نصرة أهل القوة والمنعة لإقامة الدولة، كما فعل النبي ﷺ، حتى استجاب له الأنصار.
وهذه الطريقة قائمة على اقتلاع النظام من جذوره، لا إصلاحه، ولا ترقيعه، ولا الدخول ضمن مؤسساته.
ولذلك فالدعوة إلى المشاركة في الانتخابات العلمانية ليست من الإسلام، ولا من الطريقة التي شرعها الرسول ﷺ.
لماذا حرّم الشرع المشاركة في انتخابات الأنظمة العلمانية؟
1- لأنها تُضفي شرعية على الدستور الوضعي والشرع يرفض هذه الدساتير رفضاً قاطعاً.
2- لأنها تكرّس نظاماً سياسياً حراماً يجعل التشريع للبشر لا لله.
3- لأنها تُعطل التغيير الحقيقي وتحوّل الأمة إلى جمهور يُستدعى عند الحاجة لتجميل صورة النظام.
4- لأنها تُضلل الناس باسم الدين حين يقال لهم "سوف تُسألون أمام الله عن صوتكم".
إن الشهادة لا تكون إلا على حق. وجعل التصويت شهادة هو خلط بين مفاهيم شرعية وممارسات سياسية منحرفة.
والأمانة تكون فيما أمر الله به. فكيف تكون المشاركة في منظومة تشريعية تخالف الله أمانة؟! والله تعالى يقول: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ فهل يُمنح هذا النظام شرعية باسم الشهادة؟!
إن التصريحات التي تُلصق بالانتخابات صفة (الواجب الشرعي أو الشهادة أو الأمانة) لا تقوم على دليل شرعي، ولا على فهم صحيح للواقع، بل هي جزء من حملة رسمية تهدف لحشد الناس لإضفاء شرعية على النظام وتلك العملية السياسية الفارغة.
الانتخابات آلية مباحة شرعاً إن كانت على أساس الإسلام ومحرّمة إن كانت على أساس الديمقراطية العلمانية، والمشاركة فيها في مصر اليوم إقرارٌ لنظام لا يحكم بما أنزل الله، ولا يُحاسَب المسلم على تركها لأنها ليست واجباً شرعياً، والتغيير الحقيقي لا يكون عبر هذه الصناديق، بل عبر عمل سياسي شرعي يقتلع النظام من جذوره، ويقيم حكماً قائماً على القرآن والسنة، يعيد للأمة سلطانها، وللشرع مكانته، وللإسلام دولته الراشدة على منهاج النبوة. هذا هو الطريق، وهذه هي الحقيقة التي لا يجوز إخفاؤها، ولا تبديلها، ولا تغليفها بشعارات أو عبارات دينية لا أصل لها. ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾.
بقلم: الأستاذ محمود الليثي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية مصر





















رأيك في الموضوع