جاء وقف إطلاق النار الذي فرضه ترامب في غزة، بدايات شهر تشرين الأول/أكتوبر 2025، شبكة إنقاذ أو طوق نجاة لنتنياهو، الذي استفز عناده شعوب العالم كله، لا سيما أوروبا وأمريكا، وأوجد تحولات عميقة في المواقف الشعبية تجاه كيانه الغاصب. كما كان لجماً لأطماع الكيان التي تورده موارد تتنافى مع مصالحه، حيث كانت هذه الحرب الوحشية أداة تشويه لصورته على مستوى العالم، بل باتت أداة تَثْوِير للرأي العام ضده وضد داعميه ومؤيديه، حتى صارت زعامات العالم الداعمة تخشى من التورط في شكاوى للجنايات الدولية بتهمة التورط في الإبادة الجماعية.
كما جاء هذا الاتفاق في صورة نجاح للأنظمة الموالية لأمريكا في المنطقة، حيث قدمت نفسها في صورة المنقذ لغزة من الموت والدمار، حتى يتسنى لها التدخل في فرض شروط أمريكا بنزع سلاح المقاومة، وتحويل برامج إعادة البناء - التي تُسوَّق في صورة المساعدة والإغاثة - إلى الناحية الاستثمارية لصالح أمريكا، من خلال ربطها بمعادلات واشتراطات وصفقات نفوذ سيادي يفتح المجال لاستغلال ما يمكن استغلاله من منافع في المراحل القادمة.
يفكر ترامب أن يجد صيغة معينة يجعل لنفسه من خلالها يدا على غزة وما فيها.
وقد حفظت أمريكا لحكام العرب خط الرجعة، إذ جعلت بعض من شاركوا في مداولات وقف النار يصرحون بأنهم خُدعوا، ولم يتم إطلاعهم على المقترح الحقيقي لوقف النار، وأن المقترح المعروض عليهم كان مختلفاً عما تم إنجازه. لكنهم بهذا يريدون أن يظهروا بمظهر المخدوع، فذلك خَيْر من مظهر المتآمر، بخاصة أن كيان يهود لا يتقيد باتفاقاته، ويسارِع إلى نَقْض العهد في كل حال، والخروج عن التزاماته لأدنى المبررات.
ولو تأملنا في مواقف الإعلاميين التابعين لهذه الدول، لوجدنا أن هذه الأنظمة بَلَغَت مدى أبعد مما بلغته أمريكا نفسها في العداء لفلسطين وأهلها؛ فقد صَرَّح بعض الإعلاميين التابعين للإمارات بأنهم غاية في الاكتئاب لأن الاتفاق أَبْقَى على حركة حماس في الفترة الانتقالية، ولم يتم استبعادها من المشهد السياسي بالكلية. فإذا كان إعلاميو هذه الكيانات قد وصلوا أبعد مِما وصله ترامب نفسه، فكيف نصدق أنهم خُدعوا بعرض مقترح يختلف عن الاتفاق الذي توقف إطلاق النار بموجبه؟!
أما عن حركة حماس، فقد وافقت على العنوان العام، وتركت التفاصيل للمفاوضات، لكن ترامب بنى على هذه الموافقة، واختطف المشهد ليبني عليه، معتمدا على صلف القوة، وفرارا من الحالة السياسية العالمية التي نقلت قضية فلسطين إلى مركز السياسة العالمية بقوة راسخة تزداد يوماً بعد يوم، أملاً في أن يطفئ حالة الغليان العالمي التي جعلت سياساته وسياسات الغرب كله محل احتجاج شعبي عارم.
وما زالت دولة يهود، رغم موافقتها مكرهة على الاتفاق، تحاول تفسيره للتفلت منه، ومحاولة تحقيق ما لم تحققه من أهداف حربِها على غزة. وهي سائرة في خروقات متعددة للاتفاق، بدعوى عدم التزام حماس به، وهي بذلك تكرر النموذج الذي سلكته مع لبنان. بل هي تتفلت وتحاول جعل مسألة ضم الضفة مسألة قانونية، بإعطائها الشرعية من خلال تصويت الكنيست عليها، ما اضطر ترامب إلى الرفض العلني لسياساتها، بل والتهديد بقطع المعونات عنها.
وحيث إنّ هذا كيان يهود يتمتع بوجود وضع دولي يجعله مصلحَة استراتيجية للغرب، تستدعي الدفاع عنه في كل حال، بل وتجعل الدول العربية - التي يفترض أن تكون في مواجهته - خادمة له، متعاونة معه، تقدم له المال والعتاد والدعم السياسي والعسكري وغيره، وَفْقَاً للتسريبات الأخيرة في الواشنطن بوست، التي كشفت عن تحالف بين كيان يهود وست دول عربية هي مصر، والأردن، والسعودية، وقطر، والبحرين، والإمارات. حيث أظهرت بعض هذه الدول علنا استعدادها للدخول في حرب فعلية مع حماس، وتهيئة الجو في غزة لما يحب ترامب ويرضى.
ويغيب عن تفكير هذه الأنظمة أن سلوكها الوقح سوف يجعلها في مواجهة حقيقية مع الأمَّة، بعد أن ظهر بالحس المباشر أنها أنظمة تشكل أدوات وضيعة لأمريكا في المنطقة، بل وتسعى في تحقيق أهدافها بعناية. وهذا كله يستدعي أن تتحرك الأمة - وبسرعة - لوقف هذا الذوبان في سياسات أمريكا، بلجم هذه الأنظمة، والسعي الحثيث الجاد لاجتثاثها بوصفها أداة استعمارية تحارب الأمة.
وما لم تتحرك الأمة حركة جادة لاستعادة سلطانها وملك إرادة سياسية حقيقية، فستبقى مرتعاً ومأكلة لأمريكا والغرب وربيبها في المنطقة، وسوف يزيد صلف هذا الكيان ليبتلع أراضي جديدة، كما هو الحال اليوم في جنوب سوريا ولبنان.
لذلك كله، ينبغي على الأمة العمل الجاد لإقامة الكيان الذي يوحد المسلمين، ويجمع طاقاتهم لتحرير بلادهم، وإِقامة كتاب ربهم بينهم، لينالوا بذلك عز الدنيا والآخرة.
بقلم: الشيخ يوسف مخارزة – الأرض المباركة (فلسطين)






















رأيك في الموضوع