اختتمت قمة الناتو في لاهاي بهولندا يوم 25/6/2025، وتم الاتفاق على زيادة الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2035. فوافق الحلفاء إلا إسبانيا، وعددهم 32 دولة تخصيص 3,5% من إجمالي ناتجهم المحلي سنويا للإنفاق العسكري، و1,5% لمجالات أمنية أوسع مثل الأمن السيبراني والتنقل العسكري.
وجاء في بيانهم الختامي "نجدد تأكيد التزامنا الراسخ للدفاع المشترك كما ورد في المادة الخامسة من معاهدة واشنطن بأن أي اعتداء على واحد منا هو اعتداء على الجميع". وذلك بعد "شكوك بالتزام الرئيس الأمريكي ترامب بهذا المبدأ. حيث طالب أعضاء الناتو بهذه النسبة، وهددهم إن لم يلتزموا ستتخلى أمريكا عن الدفاع عنهم وتنسحب من الناتو، إذ ينفق الأوروبيون مبالغ ضئيلة للدفاع عن أنفسهم". فقال بعد موافقتهم: "أطلب منهم زيادة الإنفاق إلى 5% منذ سنوات وسيقومون.. ذلك سيكون خبرا مهما جدا.. نقف بجانبهم". وقال بنبرة تصالحية "انتصار عظيم للجميع".
ولهذا كانت الأجواء مشحونة بالتوتر تكاد تعصف بالناتو فتحطمه، فانصاع الأوروبيون تحت تهديدات ترامب وتحاشوا الدخول معه في صراع مباشر لشدة ضعفهم ورغبتهم بالاتكال على أمريكا. حيث إن الأوروبيين اعتادوا أجواء السلام والرخاء التي سادت بلادهم وكرهوا القتال، منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وقد ذاقوا ويلاتها التي حصدت عشرات الملايين منهم ودمرت بلادهم وذلك بسبب صراعهم على السيادة. إذ القومية كثيرا ما أشعلت بينهم الحروب ولم يستطيعوا علاجها بمبدئهم الرأسمالي الباطل وصهرهم في بوتقة واحدة، كما صهر الإسلام المسلمين في بوتقة واحدة لعلاجه القومية بشكل جذري. وركنوا إلى أمريكا بالدرجة الأولى لتدافع عنهم أمام الاتحاد السوفيتي الذي كان يهددهم من الشرق وقد سيطر على أكثر مساحة أوروبا.
ولهذا تأسس الناتو عام 1949، ومع زوال هذا التهديد بسقوط الاتحاد السوفيتي وحلفه "وارسو" والشيوعية عام 1991، لم تعد حاجة للناتو، فارتفعت الأصوات المطالبة بحله وعدم الإنفاق عليه، فكانت أمريكا تتحمل العبء الأكبر من تمويله، ولكنها أرادت أن تستمر به لتبقي هيمنتها على أوروبا ولتستخدمه في مناطق أخرى كما زجت به في حربها على أفغانستان عام 2001. وبدأت تطالبهم بالمزيد من الإنفاق العسكري، فاتفقوا عام 2014 على التزام كل دولة بنسبة 2% من الدخل المحلي الإجمالي، والعديد منها لم تلتزم بها.
وسبب مطالبة أمريكا الأعضاء الآخرين بزيادة نسبة الإنفاق العسكري؛ أنها بدأت تعاني أزمة مالية مستعصية بعد تفجر الأزمة المالية العالمية برأسها بنيويورك عام 2008، وصار دينها العام يتضاعف من تلك السنة من 9.2 تريليون دولار حتى بلغ 36.2 تريليون كما أعلن يوم 3/3/2025. وارتفعت نسبة الربا على الدين إلى 3,2%. وهذا هو المستوى القياسي للدين الحكومي، وأصبح يهدد الاستقرار المالي العالمي وليس أمريكا وحدها. ولهذا بدأ ترامب بكل جدية يحاول منع رفع هذا المستوى وتقليص الإنفاق، ومنه الإنفاق العسكري، وتحصيل الأموال بابتزاز الدول الأخرى كدول الخليج، حيث أعلن أنه جمع بعضها في ساعتين 5,1 تريليون دولار، ليتمكن من تسديد الأقساط التي على الدولة للبنوك أعضاء الاحتياطي الفيدرالي، وإلا ستعلن الدولة الإفلاس والعجز عن السداد، ما من شأنه أن يضرب هذه البنوك الكبرى، وبالتالي سيؤثر على الاقتصاد الأمريكي برمته وعلى العالم كله حيث ربط بأمريكا وعملتها وأزماتها.
ولهذا بدأ تهديد أمريكا للأوروبيين لزيادة الإنفاق العسكري، على عهد الديمقراطيين بإدارة أوباما وإدارة بايدن، والذين يستخدمون الأسلوب الدبلوماسي أكثر من أقرانهم الجمهوريين، حيث يمارسون الضغوطات والتهديدات في الكواليس.
وفي فترة ترامب الأولى، بدأ الضغط عليهم بصورة علنية ليلتزموا بنسبة 2%، فالتزمت 19 دولة. وفي فترته الثانية رفع ترامب سقف المطالبة إلى 5%. وحرص على أن يظهر عظمة أمريكا قبل مؤتمر الناتو الأخير ليملي على الأعضاء ما يريد، فأعلن أنه أوقف الحرب بين كيان يهود وإيران، بعد أن ضرب مفاعلات إيران النووية. فقال متغطرسا "لا يوجد جيش آخر في العالم غير الجيش الأمريكي يمكنه أن يفعل هذا". علما أن من مصلحة الأوروبيين تدمير القدرات النووية الإيرانية، وهم الذين أثاروا هذا الموضوع منذ عام 2003 وأصبحوا يحذرون من النشاط النووي الإيراني، وتبعهم كيان يهود الذي بدأ منذ عام 2012 يهدد بضرب إيران ومفاعلاتها النووية بتشجيع منهم. وها هي أمريكا قد حققت لهم ما لم يستطيعوا فعله، وهي تحاول أن تبني شرق أوسط جديداً دونهم، فما عليهم إلا الانصياع وإلا فقدوا ما بقي لهم من وجود فيه.
وانصاع الأوروبيون، فقال رئيس وزراء بريطانيا ستارمر: "علينا التحلي بالمرونة والسرعة والرؤية الوطنية الواضحة من أجل ضمان أمن المواطنين". وقال رئيس فرنسا ماكرون والمستشار الألماني ميرتس في مقال مشترك بصحيفة فايننشال تايمز يوم 23/6/2025 وحرصا على حفظ ماء وجههما "إن أوروبا بحاجة لإعادة التسلح، ليس لأن أحدا يفرض علينا، بل لأننا واعون بواجبنا تجاه مواطنينا"، ووجها خطابا لترامب قائلين "المصدر لعدم الاستقرار في أوروبا هو روسيا" داعين "لزيادة الضغط عليها من خلال زيادة العقوبات لتحقيق وقف إطلاق النار في أوكرانيا"، مظهرين عجزهم، فلا يستطيعون ذلك دون أمريكا. وقال رئيس وزراء بلجيكا دي ويفر "على القارة تحمل مسؤوليتها أمنها في فترة صعبة جدا".
بات الأوروبيون مهددين فعلا من روسيا بعد اشتعال حرب أوكرانيا، وإذا أقروا روسيا على ما احتلته من أوكرانيا فستطمع في احتلال بلاد البلطيق وبولندا التي تطوق أراضي روسية في كالينينغراد. ولهذا قال بوتين "الغرب برئاسة أمريكا خدعنا بالقبول بسقوط جدار برلين"، أي الانسحاب من أوروبا الشرقية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. فإذا لم تدافع عنهم أمريكا فلا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، فهم بحاجة ماسة إليها، وتحتاج ألمانيا الدولة الرئيسية بأوروبا إلى ما بين 5 و8 سنوات حتى تصبح مستعدة لمواجهة روسيا، كما أفاد رئيس أركانها كارستن بروير يوم 2/3/2024.
وأمريكا تريد أن تحمّل الأوروبيين أغلب تكاليف الحرب مع روسيا، بعدما ورطت الطرفين فيها، لتبعدهما عن بعضهما بعضا، لتضعف قواهما وتأثيرهما تجاهها، وتبعد الصين عن روسيا لتبقى متفردة في الموقف الدولي.
فالناتو حلف استعماري صليبي يهدد المسلمين أيضا، فلا يجوز لتركيا أن تبقى عضوا فيه، وعليهم الاستعداد لمواجهته، ولا يكون ذلك إلا إذا أقاموا الخلافة الراشدة الثانية ووحدوا بلادهم وقواهم بحيث يرهبون عدو الله وعدوهم وآخرين من دونهم من المندسين بينهم من عملاء وأولياء للمستعمرين الصليبيين.
رأيك في الموضوع