(مترجم)
منذ الخامس والعشرين من آب/أغسطس 2025، تشهد إندونيسيا موجة من المظاهرات الجماهيرية الواسعة، سُجلت في 107 مواقع ضمن 32 محافظة. وبينما ظلّت بعض الاحتجاجات سلمية، تصاعد عدد كبير منها إلى أعمال شغب شملت التخريب وإضرام النيران. وشهدت مناطق عدة اضطرابات هي الأشد، من بينها العاصمة جاكرتا، وجاوه الوسطى، وجاوه الشرقية، وجاوه الغربية، ويوجياكرتا، وسومطرة الشمالية، ونوسا تنغارا الغربية، وسولاويسي الجنوبية، وكاليمانتان الغربية. وقد تعرضت المرافق العامة، والمكاتب الحكومية، بل حتى أصول الأمن القومي، لأضرار جسيمة. ففي جاكرتا، على سبيل المثال، تعرضت 22 محطة من محطات حافلات ترانس جاكرتا ومترو الأنفاق MRT للتخريب، وقُدرت خسائرها بنحو 50.4 مليار روبية إندونيسية.
وفي مدينة ماكاسار، في سولاويسي الجنوبية، أُحرِقت مباني المجالس التشريعية الإقليمية والبلدية (DPRD)، ما أسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة خمسة آخرين. واندلعت أعمال شغب مماثلة في مدن أخرى، استهدفت مكاتب المجالس التشريعية، ومقرات الحكومات المحلية، ومراكز الشرطة، والمتاحف، ومساكن المسؤولين، والمرافق العامة مثل إنارة الشوارع، وكاميرات المراقبة، والبنى التحتية للنقل، والتي تعرضت جميعها لأضرار بالغة. وإلى جانب تدمير البنية التحتية الحيوية، أودت هذه الاضطرابات بأرواح أبرياء وتسببت بخسائر للدولة تُقدّر بعشرات إلى مئات المليارات من الروبيات.
ظهرت الاحتجاجات الأولى في الفترة ما بين 10 و13 آب/أغسطس في باتي، بمحافظة جاوه الوسطى، نتيجة مقترح رفع ضريبة الأراضي والمباني (PBB-P2) بنسبة تصل إلى 250٪. كما حدثت زيادات ضريبية في مناطق أخرى، وصلت في بعضها إلى 1000٪، كما في تشيريبون. وجاءت هذه الزيادات نتيجة خفض الميزانيات الإقليمية لعام 2026، الذي فرضه الرئيس برابوو سوبيانتو، بقيمة 234 مليار دولار أمريكي، ما قلص أموال الأقاليم بمقدار الربع إلى 40 مليار دولار فقط - وهو الأدنى خلال عقد - ما أجبر الحكومات المحلية على رفع الضرائب على الأراضي والعقارات. وفي الوقت نفسه، زاد الإنفاق الدفاعي بنسبة 37٪، وتضاعف برنامج الوجبات المجانية تقريباً ليصل إلى 20.5 مليار دولار أمريكي.
بعد ذلك بفترة قصيرة، ما بين 15 و20 آب/أغسطس، بدأت الاحتجاجات تنتشر في جاكرتا، مركِّزة على الامتيازات الفاخرة التي يتمتع بها أعضاء البرلمان، خصوصاً بدل السكن البالغ 50 مليون روبية إندونيسية (حوالي 3,000 دولار أمريكي) شهرياً - أي عشرة أضعاف الحد الأدنى للأجور في العاصمة.
وبحلول 25 آب/أغسطس، امتدت الاحتجاجات إلى مدن كبرى مثل باندونغ، وماكاسار، وميدان، وبالي، بمطالب تراوحت بين إلغاء السياسات الموالية للنخبة وحلّ البرلمان (DPR). وتفاقم الغضب الشعبي إثر تصريحات مستفزة من بعض المشرعين، من بينها وصف المنتقدين بأنهم "أغبى أشخاص في العالم"، ما زاد النار اشتعالاً. وفي 28 آب/أغسطس، اشتبك آلاف المتظاهرين - من طلبة وعمال وسائقي دراجات نارية للنقل عبر التطبيقات - مع قوات الأمن أمام مبنى البرلمان في جاكرتا، مطالبين بإصلاحات عمالية، وإلغاء نظام العمل بالتعهيد (outsourcing)، وتعزيز الحد الأدنى للأجور.
وقع حادث مأساوي حين قُتل سائق دراجة نارية يعمل عبر التطبيقات، ويدعى عفّان كورنياوان، بعدما صدمته مركبة تكتيكية تابعة للشرطة في ليلة 28 آب/أغسطس، ما أثار موجة غضب عارمة وأجّج الاضطرابات في مدن أخرى.
ليست الاحتجاجات في إندونيسيا محصورة في الضرائب المرتفعة وامتيازات النواب الباذخة، بل تعكس تراكماً للغضب الشعبي جراء الإخفاق المزمن للدولة في تلبية تطلعات رعاياها - سواء في العهود السابقة أو في أقل من عام على حكم الرئيس برابوو - ولا سيما في المجال الاقتصادي، بالإضافة إلى افتقار النخبة السياسية للتعاطف مع معاناة الشعب.
تشير بيانات البنك الدولي لعام 2023 إلى أن نحو 60٪ من القوى العاملة في إندونيسيا ما زالت تعتمد على القطاع غير الرسمي، دون دخل ثابت أو حماية اجتماعية. وزاد الطين بلّة انكماش الطبقة الوسطى، حيث انحدر ملايين الأشخاص إلى شرائح دخل أدنى أو عادوا إلى براثن الفقر.
وبحسب بيانات مركز الدراسات الاقتصادية والقانونية (CELIOS)، شهد نحو 10 ملايين إندونيسي تراجعاً اقتصادياً خلال السنوات الخمس الماضية. وفي الوقت نفسه، ارتفعت أسعار الغذاء، وتقلصت فرص العمل، وتم تسريح أكثر من 42,000 عامل منذ مطلع عام 2025. وفي خضم الأزمة الاقتصادية، عمدت الحكومة إلى رفع الضرائب بشكل كبير وفرض رسوم إضافية على المعاملات العامة. وعندما أخفقت في تحقيق أهداف الإيرادات الضريبية بسبب تباطؤ النمو وتراكم الديون، لجأت إلى خفض الميزانيات وتحويل الأموال إلى مشاريع كبرى ذات أولوية. وفي الوقت ذاته، رفعت بدلات النواب.
وفي خضم معاناة الشعب، انتشر مقطع فيديو على وسائل التواصل الإلكتروني يظهر النواب وهم يرقصون خلال الجلسة السنوية للبرلمان في آب/أغسطس عقب ذلك الإعلان عن زيادة في بدل السكن للنواب.
إن إندونيسيا في الواقع بلد ذو إمكانات هائلة في الموارد الطبيعية، فهي تحتل المرتبة الأولى عالمياً في إنتاج القصدير والنيكل، والثالثة في الفحم، والسادسة في الذهب. غير أن معظم هذه الموارد يسيطر عليها القطاع الخاص، المحلي والأجنبي، فعلى سبيل المثال، تسيطر الصين على نحو 75٪ من أسهم النيكل في إندونيسيا.
وعملياً، تأتي غالبية إيرادات الدولة من الضرائب، بما يزيد عن 80٪ من الدخل الإجمالي. وهذا يعني أن عائدات الموارد الطبيعية تسهم بأقل من 20٪ تُقسّم مع أصول الدولة الأخرى.
لقد أدى هذا التحكم الواسع للقطاع الخاص في الأصول الوطنية الاستراتيجية إلى اتساع الفجوة في (العدالة الاجتماعية). وعندما تواجه الدولة عجزاً في التمويل، لا تجد الحكومة سوى زيادة الرسوم والضرائب على الشعب. وقد أدخلت هذه الدورة الناس في مزيد من المعاناة والغضب.
ومع الأسف، بقيت المطالب التي رفعها المتظاهرون والمشاركون في أعمال الشغب سطحية إلى حد كبير، إذ ركزت على إلغاء بدل السكن للنواب. بينما تكمن جذور المشكلة الحقيقية في البنية الاقتصادية السياسية للدولة، القائمة على الرأسمالية.
اقتصادياً، يسمح مبدأ حرية الملكية الفردية للرأسماليين والأوليغارشيين بالتحكم في الثروات الوطنية الاستراتيجية. وسياسياً، ومن خلال النظام الديمقراطي، يحمون مصالحهم الاقتصادية سواء عبر الانتخابات أو جماعات الضغط أو ممارسات الفساد مثل الرشاوى.
بقلم: الأستاذ عبد الله أسوار
رأيك في الموضوع