يخطئ من يتصور أن الاستعمار هو مجرد حقبة زمنية تاريخية انقضت، ذلك أن الاستعمار الذي يعرف بأنه (فرض السيطرة السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية، على الشعوب المغلوبة لاستغلالها)، بهذا التعريف فإن الاستعمار هو طريقة حمل المبدأ الرأسمالي إلى العالم، لذلك فهو باقٍ ما بقي هذا المبدأ يتحكم في العالم وفي العلاقات الدولية، فالغرب الكافر المستعمر هو الذي صاغ الشرق الأوسط بعد هدم الخلافة، وما زال يحكم قبضته عليه ويعيد صياغته بما يضمن مصالحه.
ففي عام 1907 عقد رئيس وزراء بريطانيا، كامبل بنرمان مؤتمراً سرياً في لندن، بمشاركة الدول الاستعمارية الكبرى (بريطانيا، فرنسا، بلجيكا، إسبانيا، إيطاليا) وقد تمخض ذلك المؤتمر عما سمي بوثيقة كامبل التي كان أبرز ما ورد فيها:
- إقامة حاجز بشري غريب في فلسطين، لفصل العرب في أفريقيا عن آسيا.
- إقامة دولة ليهود في فلسطين، حليفا استراتيجياً للقوى الاستعمارية.
ثم كانت تهيئة المسرح لإقامة كيان يهود؛ اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، حيث نفث الكافر المستعمر حقده على المسلمين، بتقسيم بلادهم إلى دول وطنية وظيفية، تكرس تمزيقهم، وتحارب الإسلام، وتحقق للكافر المستعمر مصالحه، لتسهل إقامة هذا الكيان المسخ وترعاه وتؤمنه. ثم كان وعد بلفور عندما بعث وزير خارجية بريطانيا بلفور بتاريخ 2/11/1917 برسالة إلى اللورد روتشيلد؛ أحد زعماء الحركة الصهيونية وكان مما جاء فيها: (أن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين)، وبالرغم من أن بريطانيا هي التي زرعت هذا الكيان في قلب بلاد المسلمين، إلا أنها ظلت تتوجس من أنه لن ينجح إذا أخذ طابع أنه دولة يهودية، وذلك لحساسية ذلك بالنسبة للمسلمين، الذين كانت تخشى أنهم سيلفظون هذا الكيان.
غير أن أمريكا كانت ترى إيجاد دولة يهودية في فلسطين، وذلك من أجل اتخاذها أداة لاستعمار المنطقة، ولذلك قررت هيئة الأمم المتحدة بتأثير من أمريكا إنشاء دويلة ليهود في فلسطين، حيث كان القرار 181 الصادر عن الأمم المتحدة بتاريخ 29/11/1947 والذي قضى بتقسيم فلسطين إلى دولتين. وللسير في اتجاه تصفية قضية فلسطين لصالح يهود أنشأ المستعمرون منظمة التحرير الفلسطينية، وظلت المنظمة وكيانات سايكس بيكو، تقدم التنازل تلو الآخر، إلى أن كانت القمة العربية في بيروت سنة 2002 حيث قبلت الدول العربية بخطة الأرض مقابل السلام، أي أخذ أقل من 20% من مساحة فلسطين، لتقام عليها سلطة صورية تحت لافتة الدولة الفلسطينية، مقابل التطبيع مع الكيان الغاصب، وذلك ما عرف بالمبادرة العربية، ورغم ذلك لم يقبل كيان يهود، لأن من تنازل عن 80% من أرضه يمكن أن يتنازل عن الـ20% المتبقية!
وعندما جاء ترامب إلى الحكم في أمريكا وفي نهاية ولايته الأولى، طرح ما يسمى باتفاقيات أبراهام التطبيعية، والتي تجمع الديانات الثلاث؛ الإسلام والنصرانية واليهودية.
أما لفظ تطبيع في السياسة، ويقصد به إقامة علاقات طبيعية، فقد ورد لأول مرة في نص اتفاقية الخيانة كامب ديفيد، سنة 1979 والتي ورد فيها: (أن يقيم الطرفان فيما بينهما علاقات طبيعية كالتي تقوم بين الدول في وقت السلم).
وأما أهداف اتفاقيات أبراهام فهي:
- الاعتراف المتبادل.
- تطبيع العلاقات الدبلوماسية والتجارية.
- تعزيز التعاون العسكري والأمني.
- الاستثمار المشترك في مجالات التكنولوجيا والطاقة والتعليم والسياحة.
وقد سارع حكامنا العملاء بالتوقيع على هذه الاتفاقات، حيث وقعت الإمارات في 13/08/2020، ثم البحرين في 11/09/2020م، ثم أعلن عن انضمام السودان بمكالمة فيديو أجراها ترامب وشارك فيها نتنياهو والبرهان وعبد الله حمدوك في 23/10/2020، والتحقت المغرب بهذه الاتفاقية الخيانية في كانون الأول/ديسمبر 2020.
ولما وصل ترامب إلى حكم أمريكا في ولايته الثانية هذه، جاء ليكمل تصفية قضية فلسطين، ويدخل مزيداً من الدول في اتفاقيات أبراهام الخيانية، ففي مقابلة مع قناة CNBC قال المبعوث الخاص لترامب ستيف ويتكوف: (إن توسيع اتفاقيات أبراهام هو أحد أولويات ترامب)، مشيراً إلى انضمام دول لم تخطر على بال أحد. وفي تصريحات نقلتها فوكس نيوز بتاريخ 27/07/2025 قال ويتكوف: (اتفاقيات أبراهام للسلام ستتوسع بشكل ملحوظ خلال الأشهر المقبلة وأنه لن يكون مفاجئا إذا انضمت نحو 10 دول إضافية بحلول نهاية العام).
وفي 14 أيار/مايو 2025م، خلال لقاء ترامب بالرئيس السوري أحمد الشرع، وبحضور محمد بن سلمان، وأردوغان، عبر تقنية الفيديو كونفرنس، طلب ترامب من الشرع الانضمام إلى اتفاقات أبراهام، فأبدى الشرع استعداده للولوغ في مستنقع الخيانة بعد ترتيب أوضاعه الداخلية!
ويوم الاثنين 11/8/2025م، وبمكالمة هاتفية، سافر البرهان إلى زيورخ بسويسرا، والتقى بمسعد بولس مستشار ترامب، ومن ضمن تعليماته للبرهان توقيعه على اتفاقيات أبراهام مع كيان يهود، علماً بأن السودان قد وقع على هذه الاتفاقيات بتاريخ 06 كانون الثاني/يناير 2021 بالسفارة الأمريكية في الخرطوم، حيث وقع عن أمريكا، وزير الخزانة، ستيفين منوتشين، وعن السودان نصر الدين عبد البارئ وزير العدل.
إن كيان يهود اللقيط هو ابن الاستعمار المدلل، والدويلات الوطنية الوظيفية التي أنشأتها سايكس بيكو عام 1916 في بلاد المسلمين، فهي توالي الاستعمار، وقد أوكل إليها سابقا مهمة تسهيل إنشاء كيان يهود، ثم رعايته وحفظه، والآن تريد أمريكا عبر اتفاقيات أبراهام أن تنقل كيان يهود، ليكون الوصي على هذه الدول، ويضع يده على ما يتبقى من ثرواتها، ويكون بمثابة حصان طروادة، يسهل مؤامرات أمريكا والغرب الكافر في بلادنا، من تقسيم المقسم وتفتيت المفتت، ومحاربة الإسلام، ونهب الثروات والحيلولة بين أمتنا وبين نهضتها، هذا هو مكر الكافر المستعمر، والله خير الماكرين، ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾.
إن الغرب الكافر في معركته الطويلة مع المسلمين، يخرج الآن لملاقاة المسلمين بنفسه عبر كيانه اللقيط، وبدعم مباشر من رأس الكفر أمريكا، ولا شك أن ذلك يعني قرب انتهاء معركتنا معه، وهو الذي كان يدير معركته معنا بالوكالة، فإذا به يخرج الآن بنفسه إلى ساحة المعركة، مصداقا لقراءة حزب التحرير الذي أورد في كتيب نقطة الانطلاق صفحة 33 عن الاستعمار: [وسوف لا يوجه (الاستعمار) الحزب إلا في حالة يأسه، وإلا حين يصبح يقاتل في آخر الخنادق التي يملكها، ويحمل آخر سلاح لديه]، وهذه بلا شك بشارة، بأن المعركة مع الاستعمار في نهايتها، وطالما أن هنالك مسلمين صادقين، واعين، متوكلين على الله حق توكله، ويستمدون العون والمدد منه سبحانه وتعالى، ولم يتركوا ساحة المعركة، يغذون الخطا والسير نحو نهضة الأمة، يربطون الأسباب بمسبباتها، وهم بالغيب مؤمنون، فإننا نوقن بأن نصر الله قريب لا محالة، يتنزل على هذه الأمة إن شاء الله، فترتد اتفاقيات أبراهام لعنة على يهود، بل وعلى نفوذ الاستعمار في بلادنا، وفي أرجاء المعمورة، فتشرق الأرض بنور ربها في ظل الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
* عضو مجلس حزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع