سؤال تفرضه الأحداث التي تمر بها الأمة بين الحين والآخر، كما يزداد التساؤل في هذه الأوقات فيما يشبه الاتهام والإدانة للأمة، في ظل ما تعانيه غزة من حصار وإبادة على يد يهود المجرمين.
إن الوعي المنضبط لا يبنى إلا على أساس تصورات واضحة ومفاهيم محددة ومنضبطة، إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره. فإذا غابت التصورات المشتركة، تشتت الفهم وتعذر الإفهام، ما ينعكس على القدرة في تشخيص الواقع واتخاذ المواقف العملية تجاه الأشياء والأحداث والأشخاص. ومن هنا فإن تحرير المفاهيم وضبطها يمثل الخطوة التأسيسية لأي وعي أو مشروع نهضوي.
من الضروري التمييز بين أصل وجود الشيء وبين توصيف حاله. فالسيارة على سبيل المثال وجودها المادي ثابت، لكن تعطلها أو توقفها توصيف لحالتها. وبالمثل، الأمة الإسلامية وجودها موضوعي راسخ، إذ تمتلك مقوماتها الجوهرية: العقيدة الجامعة، وأنظمة الحياة المنبثقة من العقيدة، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾.
أما توصيفها بالضعف أو التفرق أو الغياب أو المرض فهو توصيف لحالة طارئة لا تنفي وجودها. وهذا التفريق أساسي لأنه ينقلنا من تصور أن الأمة قد فقدت مقوماتها، إلى إدراك أنها قائمة لكن معطلة الفاعلية.
من هذا المنظور يمكن القول: الأمة الإسلامية اليوم موجودة ولكنها تعاني من تعطل وظيفي؛ فالغالبية في حالة غيبوبة فكرية وسياسية، بينما تظهر تحركات فردية وردود فعل متفرقة. فالأمة أصابها ضعف فكري نتيجة انحسار فهم الإسلام عن كونه محركا للوعي، ما جعلها نهبا لمفاهيم وافدة وتضليلات فكرية وسياسية. وقد أفرز هذا العجز والاستسلام غياب المحركات الفكرية والسياسية المؤثرة.
فالجماعات والنخب في معظمها إما غائبة وإما مدمجة في منظومات الواقع القائم، وهذا ما يفسر غياب الاستجابة الجماعية للأمة أمام أحداث كبرى، مثل الإبادة الجماعية والتهجير في غزة، حيث بدا الفرق شاسعا بين الأمة كوجود موضوعي وبين وعيها وفاعليتها السياسية.
طبيعة أزمة الأمة ليست في وجودها، بل في غياب الفاعلية. جوهر المشكلة يكمن في ثلاثة غيابات كبرى هي:
- غياب المفاهيم المحركة: إذ لم تعد العقيدة الإسلامية أساس التفكير والسلوك.
- غياب القوى المحركة: الأحزاب والنخب الفكرية والثقافية المؤثرة غائبة أو مقيّدة.
- غياب القيادة السياسية المبدئية: التي توحد الأمة وتوجه طاقاتها.
وهذا ما يشير إليه قول النبي ﷺ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ».
فالذل ليس عدما للوجود، وإنما تعطل للدور والفاعلية بسبب ترك منهج الإسلام.
طريق العلاج يبدأ أولاً بإحياء المفاهيم الإسلامية الأصيلة في وعي الأمة، عبر عمل فكري دعوي يعيد للعقيدة دورها كمحرّك أساسي. قال تعالى: ﴿قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ﴾. ثم يستمر هذا العمل في شكل تفاعل سياسي مبدئي داخل الأمة، لتوليد وعي عام منضبط بالإسلام، يحول العاطفة الشعبية إلى رأي عام سياسي فكري قادر على الضغط وتوجيه الأحداث.
كما ينبغي معالجة التضليل الإعلامي والسياسي الذي يعيد إنتاج الوعي الزائف، وكشف آليات الإقصاء التي تبقي الأمة مغيبة عن دورها. وهنا يبرز واجب حملة الدعوة في المثابرة وعدم الكلل أو الملل، ودوام السيرورة الدعوية، عملاً بوصية الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾.
ويبقى استنهاض القوى العسكرية، العنصر الحاسم في إعادة الأمة إلى فاعليتها ودورها وريادتها، فوظيفتها الشرعية ليست حماية الأنظمة القائمة، بل حماية الأمة ومشروعها السياسي الجامع (الخلافة). قال ﷺ: «إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ».
فالجيش في التصور الإسلامي جزء من الأمة، ومهمته نصرة مشروعها السياسي المتمثل في الخلافة التي توحد الأمة وتعيد تمكينها وفعاليتها.
فالأمة الإسلامية إذن ليست معدومة ولا منتهية، بل هي كيان قائم بمقوماته، لكنه يعاني من تعطل وظيفي. هذا التعطل ناجم عن غياب المفاهيم والقوى المحركة، والقيادة المبدئية.
وبتكثيف جهود حملة الدعوة لإعادة إحياء المفاهيم الإسلامية، وربط الوعي بالوحي، وبناء رأي عام على فكر سياسي منضبط بالعقيدة، واستنهاض طاقات الأمة الكامنة وعلى رأسها الجيوش، بهذا يمكن للأمة أن تستعيد حيويتها ودورها التاريخي، وتستأنف حياتها الإسلامية، وتعيد صناعة التاريخ، وتعود كما أرادها الله ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾.
بقلم: د. أشرف يوسف أبو عطايا
رأيك في الموضوع